بعد غبار المعركة
بقلم: أمجد عرار
2012/11/21

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=14324

في غمرة الحديث عن “الهدنة” وفيما كان قطاع غزة يلملم أشلاء الجثث الممزّقة والمتفحّمة، ظهر على إحدى الشاشات موقف أكثر تفحّماً وأفعل تمزيقاً لثقافة العزة والكرامة . موقف أطل على الشاشة عارٍ بلا رتوش ولا ماكياج، انهزامي بائس، تيئيسي ويائس . كان يتكلّم وكأن غزة رفعت راية الاستسلام، فأغرق في نعي المقاومة وأسلحتها، متبنّياً رواية مسؤول “إسرائيلي” التي تبجّح بها في اليوم الأول عن تدمير كل منصات الصواريخ في غزة، ونسي المحلل العبقري أن المسؤول “الإسرائيلي” نفسه تخلّى عن روايته بعد يومين بعد أن كذّبته المقاومة بقصف “تل أبيب” وبعدها “هيرتسليا” . لكن حسناً فعل المتحدث المقابل حين ذكّره بأن “من يده في الماء ليس كمن يده في النار”، وأنه لا يجوز للبعيد أن ينظّر من فوق الأشلاء والدماء ويقول لمن يقاتلون ما يجب عليهم أن يفعلوا وما لا يجب .

كل ما ورد أعلاه لا يعني حرمان أي أحد من انتقاد هذا الموقف أو ذاك أو يدلي بدلوه في أية قضية عربية، لكن شتان بين النقد البناء والنقاش تحت خيمة الحس القومي، والكلام المغمّس بالذل والانهزام، الكلام الذي ينضم لدفن كل قيمة لها علاقة بمواجهة الظلم والقهر والاحتلال والعدوان، باسم التعقّل والحكمة ووحدانية لغة الدبلوماسية والمناشدة والاستنكار، وهذا منطق لم يفهم متبنوه بعد عقود من التجربة أنه عقيم وفاشل وجالب للويلات والكوارث والتراجع المذهل .

كثير من الآراء تم تناثرها في هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك، بعضها أبدى مخاوف سياسية تنتج عن العدوان على غزة، كشأن أي حرب تفضي إلى وضع سياسي بعد هدوء السلاح . من حيث المبدأ، لا يستطيع المرء أن يستبق الأمور ويخلص لاستنتاجات سياسية بحاجة إلى تفاعلات يظهرها انقشاع دخان المعارك وغبارها، حتى وإن كانت للمقدّمات استنتاجات، ولا تمطر السماء بلا غيوم، كما أن لا دخان من غير نار . من الطبيعي، ألا تبقى أي حرب مفتوحة إلى ما لا نهاية، وأن يكون طرفاها بقدر أو بآخر معنيين بمخرج مناسب يضمن لكل منهما أن يقول لأناسه إنه انتصر، أو على الأقل حقّق أهدافه أو بعضها .

هناك من قال إنه بمجرد قصف “تل أبيب” فإن المقاومة انتصرت . قبل ذلك كثيراً ما قيل إن البقاء على الأرض والصمود هما انتصار . وقيل أيضاً إن فشل العدو في تحقيق أهدافه انتصار أو شكل من أشكال الانتصار . إذاً فللانتصار معان متعددة أو وجوه كثيرة، وربما يمكن اعتباره أمراً نسبياً . غزة كشعب ومقاومة انتصرت وكانت نداً، وأبدت شجاعة أصيلة في الدفاع عن نفسها ومفاجأة “إسرائيل” ليس بما تملك فحسب، بل بجرأتها على ما لم تتوقّعه “إسرائيل” .

لكن التاريخ علّمنا أن الانتصار الميداني يبقى ناقصاً، أو ربما يتحوّل لاحقاً إلى هزيمة سياسية، وليس منهجا “كامب ديفيد” و”أوسلو” سوى مثالين على تحويل الانتصارات في الميدان إلى هزائم على الطاولة . وليسمح لنا القائل إن “إسرائيل” أرادت أن تختبر دول الربيع العربي فجاء الرد على غير ما توقّعت، أن نختلف مع ما ذهب إليه وهو أقرب إلى العاطفة منه إلى الحقيقة . المواقف التي سمعناها بشأن العدوان على غزة، لم تحمل أي تغيير جوهري عما تعوّدنا عليه سابقاً . أما الاختلاف النسبي في اللهجة فلا علاقة له بأي تغيير جذري ينتظره الشارع العربي .

مهما يكن من أمر لا ينبغي التقليل من نضال غزة، وإذا كان البعض يحب وضع النقاط على الحروف، أستميحه عذراً، وأقترح رفع النقطة عن حرف الغين في غزة .

http://www.miftah.org