إحداثيات العنف الفلسطيني في يوم مناهضة العنف
بقلم: ريما كتانة نزال
2012/11/26

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=14342

يعنفني يوم الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد النساء.
يعنفني عدم اكتراثه بي، ويقهرني أكثر عدم اعترافه بتعنيفي.

في يوم مناهضة العنف ضد المرأة، تنازعني الرغبة في أن أعنفه بالتمرد عليه، وأن أشيح بقلبي عن متاهة تفسيراته ومعانيه. تراودني نفسي تارة أن أبعثر عليه أحزان امرأة عادية، وتراودني تارة أخرى أن أفرد جميع إحداثياتي باتجاه وجه عملته العنيفة، وأن أبعثر أولوياتي على الجحيم المسلط على الأبدان الخائفة، وأن أجرده من زركشاته وزخارفه وأضعه في مكانه العنيف، وأجبره على الخوض في الحوار الصعب مع المساكين الذين تحولوا الى أرقام غير مؤكدة لضحايا عنف الاحتلال.

العنف في فلسطين ينطق بصوت الاحتلال، العنف في بلادنا له عيون لا ترى إلا من خلال عدسات البنادق. اقتنعنا بأسباب العنف ولكن جعلنا مساحة لإفرازات عنفية أخرى. كنا مقتنعات في مصدر تهديدنا من قبل السور الواقي، وكذلك بعدها وبعد الرصاص المصبوب واعمدة الدخان. يأبى الاحتلال الا ان يجعلنا نلمس بأن وجه العنف في بلادنا على مقاس الاحتلال. لم يكن لدينا خلاف حول المصدر الرئيسي للعنف، لكننا نحمل مع أثقالنا العنف الداخلي. الاحتلال يصحح احداثياتنا الافقية والعمودية ويجعلها تلتقي على فوهة دبابة. تصحح نفسها مهما تعرجت وتاهت مساراتها، بوصلة الفلسطينيات منضبطة على رائحة دماء الشهداء.

هذيان عنيف يحاور توأمه، يتقاتلان على مصدرهما. وكلاهما يضمر الشر تجاه الآخر، فالنفس متهمة بانها أمارة بالسوء. تهميش يخاطب صداه، إقصاء الاحتلال للحياة يتلاعب بالإقصاء المجتمعي، يتبادلان المواقع فنتحرك بالاتجاهين المتشابهين نحو العنف والمختلفين بتوجهاتهما.

نفسي الأمارة بالسوء تأمرني بالعشوائيات. أرتب الروايات المختلفة حول ارثي المكتوب من العنف، رواية تبدأ بلحظة اختبار الحياة. الصرخة الاولى سجلت صك قيودي، مؤكدة تغلب مورثاتي الانثوية على غيرها. وفي إطلالته الأولى زاول رأسي مهنة التلفت الدائرية.

وفي يوم آخر، بدأ الواقع يحيك جوْرا آخر يحشرني بين جدران الخوف. هوس العسكرة والسيطرة، ورهاب الطرق والمسالك والحدود. أحدهما يضع هياكل الاستحواذ بي، ويبرمج مواعيد كيّ وعيي والسيطرة على حركتي وسكوني، ويواظب على التلاعب براهني ومستقبلي. يشدني على وتر الحرب، ويصلبني على خطايا التاريخ.

من يحول دون أن أكون امرأة كباقي نساء الأرض، تطالب برفع العنف الاجتماعي الذي بني منذ الولادة على أساس خيارات لم أتدخل بصنعها. من يعيق معاناتي الطبيعية في أن أكون امرأة مهمشة يمارس التمييز ضدها والإقصاء بحقها لتركز نضالها على الخلاص منهما. من يجعلني أقوى على تصنيف العنف بين عنف أوعنف أقل وطأة، ومن يجبرني على وضعه في مستويات وترتيبات. الاحتلال يجعلني أختار بين عنفين اثنين رغم انفي، وبذلك يعيق برنامجي وأجندتي ويدخل العوامل الواقعية التي تشتت برنامجي، من يضعني أمام تفضيل خيار انتقاء العنف المجتمعي وهوانه. الاحتلال لا يصادر أن اكون امرأة تناضل من أجل حقوقها، ويحول دون أن يكون الطفل طفلا.

عنف أبوي يترعرع في رعاية الاحتلال.. لكن عنف القتل والتدمير والتهجير والافقار يتفوق على ما عداه من أشكال عنف اختبرتها وسأختبر عنفها أكثر في ظل كل ما اضافها الاحتلال على رصيدها، وما أورثها من تشويش وتمويه على انتهاكاته وظلمه..

انه عنف يتضاءل ويختفي أمام جبروت عنف آخر أقوى وأشد، وطأة عنف مسلح تصغر أمام وحشيته كل أنواع العنف التي عرفتها الانسانية.. انه الاحتلال الذي يجعلنا نفرق بين عنف وعنف آخر اكثر سوءاً، فتلتبس إحداثياتنا ونتجرجر قسراً للبحث عن تسوية ما مع النفس الأمارة..

http://www.miftah.org