القوات الاسرائيلية تنسحب من حي تل السلطان في رفح
بقلم: مفتاح
2004/5/24

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=980


سأنأى بنفسي, اختياراً, عن مناقشة الدعوة إلى الحوار في مقالة الكاتب هشام الدجاني "... لماذا لا نحاورهم؟" ("الحياة" 19/5/2004), لأنني مع الحوار أولاً ودائماً. بيد أن بعض الأحكام التي خرج بها الكاتب بشأن شريحة المثقفين الإسرائيليين المنضوين ضمن تيار "ما بعد الصهيونية", الذين يخصّهم بدعوته للحوار الموجّهة إلى المثقفين العرب أساساً, نحت منحى الإطلاقية التي لا تبررها المعطيات الموضوعية فحسب بشأن الشريحة السالفة. قد تترتب على منحى كهذا أوهام وربما مواقف ليس فقط من الشريحة المذكورة, وإنما أيضاً من المجتمع الاسرائيلي برمته, الذي خضع ولا يزال, في فترة السنوات الثلاث والنصف الفائتة, لمزيد من التغييرات البنيوية التي طاولت كذلك ظواهر واعدة مثل "ما بعد الصهيونية" حتى تكاد أن تجعلها أثراً بعد عين.

في هذا الصدد أحيل الكاتب, والقراء عموماً, إلى تحقيق مطوّل نشرته صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية أخيراً حول الموضوع على مدار حلقات ثلاث. والمثير في هذا التحقيق أن بعض "أساطين" ظاهرة "ما بعد الصهيونية", من الذين يرد ذكرهم أيضاً في مقال الدجاني, اعترفوا ببراءتهم منها وتنكرهم لها لأسباب ليس أبسطها أن الفلسطينيين يتحملون وزر ذلك, تساوقاً مع ادعاء رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق, إيهود باراك, الذي افترى عليهم "مواقف آثمة" في مفاوضات "كامب ديفيد". ولئلا يضيع الكلام في وهج التعميم, في ما يلي بعض تلك الاعترافات التي اشتمل عليها تحقيق "هآرتس":

- يقول توم سيغف إن "ما بعد الصهيونية ماتت بسبب الفلسطينيين", أي بسبب الانتفاضة الثانية, المستمرة منذ ثلاث سنوات ونصف السنة. غير ان سيغف يخفف قليلاً من حدة توصيفه هذا بقوله "في الوقت الراهن اصبحت فكرة ما بعد الصهيونية في الثلاجة, وهذا في أحسن الاحوال. فهي لم تعد شيئاً حياً. هذا ليس العصر الذهبي لما بعد الصهيونية". ويضيف: "لقد ارغمتنا الانتفاضة على العودة الى داخل ذاتنا الصهيونية. الارهاب الفلسطيني يعيدنا الى الرحم الصهيوني. فكل الانفتاح الذي لوحظ حصوله عقب توقيع اتفاقات اوسلو, لم يبرهن على نفسه لغاية الآن, وهذا راجع, بحسب رأيي, للارهاب. والشيء الذي تصدر اهتمام التيار ما بعد الصهيوني, كان الجدل حول الكيفية التي يمكن ان تكون فيها الدولة يهودية وديموقراطية... اليوم لم يعد هناك من يأبه بهذا الموضوع. فنحن نشعر, كما يخيل اليّ, بأننا نحارب ونصارع دفاعاً عن حياتنا, وهذا بسبب العرب".

- يعتقد ايلان بابه, الذي يعتبر يسارياً وما بعد صهيوني بارزاً, ان "ما بعد الصهيونية" أضحت منذ اندلاع الانتفاضة الثانية تياراً وهمياً غير فاعل. - أما في ما يخص بيني موريس فإن قصة نكوصه عن عديد النتائج الناجزة لأبحاثه أضحت من "الأسرار المفضوحة", حيث لا نحتاج معها إلى عناء التفاصيل. مع ذلك فإنه في التحقيق الصحافي ذاته لم يضنّ زميله بابه في الكلام عنه. ومن ذلك قوله إن موريس أطلعه, خلال لقائهما الأول في آخر الثمانينات, على وجهات نظره الحقيقية التي وصفها بابه بأنها "وجهات نظر عنصرية بغيضة تجاه العرب عامة والفلسطينيين على وجه الخصوص". لهذا السبب نجد بابه يستشيط غضباً إزاء ادعاء موريس "كلانا - أنا وبابه - من أنصار اليسار", على رغم الاختلاف في المنهج والسياسة. ويتهم بابه موريس بأنه "انتهازي", مضيفاً أن الأخير أصدر أخيراً باللغة الإنكليزية طبعة جديدة لكتابه عن المشكلة الفلسطينية ليس بسبب توافر مادة جديدة دفعته إلى ذلك, كما كتب موريس في تقديمه للكتاب, وإنما لأن "هذا العاهر" - والمقصود موريس - لاحظ عقب اندلاع الانتفاضة الثانية بأن "الاتجاه في إسرائيل انزاح نحو اليمين".

ولكن - أردف بابه - بعد فوز اليميني بنيامين نتانياهو في انتخابات 1996, "كان من الصعب الحصول على درجة البروفسورية في جامعة إسرائيلية. من هنا بدأ التحول, حيث وجد - موريس - أن سيكون من السهل أكثر الحصول على عقد عمل ثابت ودرجة البروفسور إذا ما قام بتهوية وتلميع وجهات نظره التي آمن بها أصلاً". وتابع بابه: في الطبعة الجديدة (الإنكليزية) لكتاب موريس "تحوّل التطهير العرقي إلى خطة رئيسة, انتقدها موريس لأنها لم تكن ناجعة بدرجة كافية!" (وهذا الأمر ندّت عنه أيضاً مقابلات عدة أدلى بها موريس لوسائل إعلام إسرائيلية مختلفة). حيال ذلك مهما تكن الأوهام, التي قصدت التحذير منها في مستهل المقال, فإن وهماً واحداً منها يستحق أن نتوقف عنده بقدر مناسب من التفصيل. وهو المتعلق بقول الكاتب إن "ما بعد الصهيونية" باتت تمثل "تياراً مهماً في الوسط الأكاديمي الاسرائيلي".

وقوله: "لعل المأزق الذي أوصل شارون البلاد اليه يجعل كثيراً من القوى المعتدلة وقوى يسار الوسط تعيد تفكيرها في مواقفها" وما إلى ذلك. الحقيقة أن هذا التيار, حتى من قبل أن يعلن أهم "رموزه" عن موته, بحسب ما يمكن الإثبات بالدليل القاطع عبر الأقوال المقبوسة عنهم أعلاه, لم ينطو على أهمية كبيرة في سياق التطورات التي خضع لها المجتمع الاسرائيلي نفسه. أما تأثيره على المؤسسة الأكاديمية والبحثية الاسرائيلية فقد أصبح من نافل القول إنه هامشي قبل أن تزيده التغييرات الأخيرة هامشية. على رغم ذلك فإن أهمية نتاجه لا يقلل من شأنها انكفاء هؤلاء "الرموز" من الطريق الذي شقوه.

في تقديم الترجمة العربية لكتاب بيني موريس "تصحيح خطأ", التي أنجزتها في العام الماضي, كتبت ما يلي: ثمة سؤال يحضرنا على الدوام عندما نقدّم للقراء العرب نصوصاً إسرائيلية في نقد الصهيونية, هو: أين نحن من كل هذا؟ وفي معرض التوقف عند هذا السؤال سبق أن نوهت بأن أشدّ ما يعنينا إزاء هذه النصوص يبقى متمثلاً في كونها تؤشّر الى ثقوب يطلّ عبرها مأزق الخطاب الصهيوني أو الرواية الصهيونية لتاريخ النزاع. وهي ثقوب مترتبة أيضاً, فضلاً عن مستحصلات الكتابة ذاتها, على مجرّد النقاش الذي تثيره وعلى مجرياته ومنطوقاته المختلفة وتظل مهمتنا أن نفهم ما هو موجود, إنّما من غير خداع للذات بأن ما هو حاصل يشكل ثورة في طريقة التفكير الإسرائيلية حيال الداخل والخارج معاً. فلئن كانت تلك الثقوب تسعفنا قليلاً لدى الآخر في سرد روايتنا التاريخية المدافعة عن وعينا التاريخي, حتى لو أتى ذلك من لدن هذا "الآخر" ذاته, فإن ما ينبغي ملاحظته قبل أي شيء هو كون حدود إسعافها لا تتخطى نخبة ثقافية وأكاديمية منشغلة بالتأريخ الجديد والسوسيولوجيا الانتقادية.

وملاحظة أخيرة: يكبر الدجاني, عن حقّ, نزعة التصادم مع الأساطير, وهي خصيصة ملازمة لتيار "ما بعد الصهيونية". لكنه بموازاة ذلك يقع في فخ تكريس أساطير عربية عن إسرائيل, أبرزها أن الفلسطينيين في الداخل "هم أكثر معرفة في شؤون التعامل مع الاسرائيليين". وينطوي هذا الحكم على أسطورة لما يكمن فيه من تعميم يفارق الحقيقة. لقد حان الوقت, عربياً, من ضرورة معاينة الفوارق في الموقف من إسرائيل ومن مستجدات واقعها السياسي والاجتماعي وغيره بين القوى السياسية العربية المختلفة في الداخل, لا لأن فوارق كهذه قائمة فعلاً وحادّة, إن شئتم, فحسب بل وأيضاً لأن تيارات سياسية مخصوصة تبني موقفها السالف بناء على وضعية من الإذدناب المؤدلج عادة لمواقف "اليسار الصهيوني" ليس أكثر. فهل يصح أن يستوي هؤلاء مع غيرهم ممن يضعون, باعتراف القاصي والداني, تحديات حقيقية أمام إسرائيل والحركة الصهيونية, بما في ذلك بل على رأس ذلك أمام تيارات ذلك "اليسار" الذي لم يبق منه أخيراً سوى الاسم؟ - الحياة اللندنية -

http://www.miftah.org