مفتاح
2024 . الجمعة 5 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 
رجل في السبعينات من العمر، مشلول اليد، يرتجف دائما، مألوف في المكان والزمان، متوحد في كل الحالات، لاجئ و منكوب ومريض ورائع ومألوف، ينقذ ذاكرتك من النسيان، أو يذكرك بالقادم بصوته المتهدج، وكلماته المتلعثمة حول لسانه الجريح.

هو أبوك وأخوك وأمك و نفسك وتاريخك، ضعفك وقوتك، حياتك ومماتك، وهو ثالث ظلين يندلعان منك إليك إذا مشيت من البعيد الى البعيد، وحّدقت في ما وراء المكان: عمرك المقتول، حصانك خلف السياج، بيت وبئر ولغة لها وقع الغزال.

أبو السعدي، ملك المسيرات والاعتصامات والمواجهات السلمية والشعبية لقوات الاحتلال، ملك الحضور في كل خيمة وشارع وتجمع وحفل وجنازة، وفي كل فرح وعزاء، الموجود قربك وبعدك، يحمل همّك وينادي، ويحمل دمعك ويصرخ، يأخذك الى حيث كنت تنوي أن تذهب، أو يداهمك بقصيدته المقطوعة اليد بلا قافية ولا ثياب.

أبو السعدي، العجوز المريض ابن مدينة رام الله، الجالس كالراية في خيمة اعتصام أهالي الاسرى في ساحة الصليب الأحمر الدولي، يرفع صورة أسير، ويتحرك بين الأمهات المتضامنات، كأنه قطعة من الحياة التي تمنح دلالاتها للصدى ، القادر أن يفتح أبواب النهار دون أن يرى الظلام خلف المدى.

يخترق أبو السعدي هذا الصمت، يمهر ويصهل ويتفحص الوقت الأسود في الزنزانة، ويقول للأسير المضرب عن الطعام لا تحترق أكثر لتضيء روحك، ولا تذب ريثما تثقب الشمس فضاء الدنيا، وترى أمك وأبيك وابنك، فالعناوين لم تتغير: اسمك وتاريخ ميلادك ورائحتك، وقد امتلأ بها جسمك لكي تصعد ثم تصعد الى حيث تريد خطاك.

أبو السعدي يحرك يديه، يهتف من قاع قلبه في دوار الساعة، يرفع الماضي في الكلام، ويجلب المستقبل ابيض من لسعة الملح في حلق أسير قرر أن يغسل الحرية بالجوع ليكسر فراغ الزمن العبري وخرافة السجان، وينتبه وهو يحلق حول صورة مروان البرغوثي وأحمد سعدات، ويبكي وهو ينتظر خروج القمر من عينين لا تنامان هناك في سجن النساء.

هذا الرجل السبعيني الذي تعرفه او لا تعرفه، تراه ولا تراه، هو شهيدك وجريحك وأسيرك وفقيدك، هو رثائك المذبوح وأغنيتك المحطمة بقنبلة غاز في بلعين أو أمام سجن عوفر، وهو قدماك عندما يقودك الى حاجز قلندية لتبحث عن رصيفك خلف الجدار، أو عن زيتونك في رائحة التراب.

أبو السعدي، حالنا وحلمنا، وقت صلاتنا وصوت أجراسنا، يتسع لك إن ضاقت بك السبل، ويضيق عليك إن تركت المدينة تتبدل وتتهجن، وانشغلت بأصنامك عن غرباء ينامون في خبزك ومعبدك وراء المساء.

رجل من رام الله اسمه أبو السعدي، عرف بوابات السجون وأسماء المأسورين فابتكر جهة أخرى للبقاء حيا دون أن يسقط تحت مجنزرة أو يتشظى بقذيفة بعد ان تحول الى صوت يحمله حلم كما تحمل النجمة دهشة السماء.

يمضي معك في مظاهرة أو اعتصام او زيارة لامرأة قضت عمرها تحاول أن تعيد الشباب لمحارب خلف القضبان قضى عمره بين الليل والحديد، ويمضي معك اليوم وغدا، الى الحرب إن وقعت، والى السلام إن شفي المحتل من عقدة المذبحة وفتنة الأساطير.

أبو السعدي يقع على الأرض، يدعسه الجنود ببساطيرهم، يقتحمون عفويته وبراءته وشيبه، وهو ينجو من الموت وصيد الطائرات الجائعة، وينسحبون عندما يفتح عليهم أبواب قريته المخطوفة وأشباح التين والزيتون وأناشيد الأسرى، بكبرياء الموج وهبوب الرياح وضحكة الضوء في فيضان الجسد.

رجل من رام الله اسمه أبو السعدي، يعيش على بركة الله، تحته الأرض وفوقه السماء، له حدود ودستور وغلاية قهوة وسقف غرفة، وما هو ضروري لحوض النعنع وصلاة العشاء، وهو المنتشر المتعدد، النداء الذي يغمرنا بالتفاصيل ، المفتوح على كل الجهات ، الكثيف الكثيف كالحب ، الدافئ كبطن الأرض تمتصك بنهم، فيستمر العناق الى الأبد.

أبو السعدي يتبعك حتى القدس والجليل، لا يشيخ في السفر، فهو دائما أول النشيد، يشد يديك لتعرف أين أنت، يطل على العالم بوجه دولة حرة بالغة متكاملة، لا ببقايا ضحية تقاسمها المستوطن والجندي على حاجز في الطريق.

szaida212@yahoo.co

وزير شؤون الأسرى والمحررين

 
 
اقرأ المزيد...
 
 
لنفس الكاتب
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required