مفتاح
2024 . الجمعة 5 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 
منذ ما يزيد عن واحدٍ وثلاثين عاماً وأنا أعيش تجربة الأسر بتفاصيلها وبكل ما فيها من كبرياء وعزة وثبات وصمود وآلام وآمال ومعانيات وتحديات، عاصرتُ وعشتُ وشاركتُ وقُدتُ مواجهاتها وإضراباتها، ومازلتُ أذكر يوم التاسع عشر من آب عام 1994 وأنا أُودع زملائي وأحبتي في السجن وقد ودَعتهم جميعاً باكياً ومعاهداً إياهم أن أُواصل النضال إلى جانبهم وأن أكون صوتهم، وأحمد الله أنني وبعد أكثر من سبعة عشر عاماً على خروجي من السجن الذي أمضيتُ فيه أربعة عشر عاماً مازلتُ وفياً لمن هم أهلاً للوفاء، فقد ظلوا وسيبقوا الأولوية بالنسبة لي في كل موقعٍ رسميٍ أو شعبيٍ أشغلته، وبحكم متابعتي ومعاصرتي للعديد من صفقات التبادل التي أحفظ عن ظهر قلب تفاصيلها وتواريخها وأسماء من خرجوا فيها.

أتوقف اليوم أمام صفقة التبادل وقفة جوهرية من حق المواطن أن يعرفها، وكذلك إن كان أخوتي وأخواتي المحررين الذين أُهنئهم على تحررهم من الأسر، وهم الآن أحرار قادرين على التعبير عن فرحهم ومواقفهم، فإنَ هناك من هم في الأسر في زنازين العزل وفي غياهب السجون من لا تتوفَر لديهم الفرصة مثلنا للتعبير عن مواقفهم .. فإنَني أرى من واجبي أن أكون لسان حالهم، فهي مسؤولية وطنية وأخلاقية وضميرية وسيسألني عن ذلك رب العالمين يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

ومن الأهمية بمكان التوضيح وبأنني إذ أعتز وأفتخر بفتحاويتي وانتمائي لحركة تحمل على أكتافها تاريخاً مجيداً من البطولات والتضحيات صنعها عشرات الآلاف من الشهداء ومئات الآلاف من الأسرى، فإنني هنا لا أُعبر عن موقف حركة فتح لأنني أولاً لا أشغل أي موقعٍ في أيٍ من مؤسساتها، وثانياً لأن الحركة لها أٌطرها وقيادتها والناطقين باسمها، وثالثاً فإنَ سيادة الرئيس محمود عباس قد بارك الصفقة منذ اللحظة الأولى للإعلان عنها وتذكروا أنه أيضاً رئيساً لحركة فتح ثم إنَ مستشاره السيد نمر حماد، قد قال في مقابلةٍ للجزيرة يوم الثلاثاء الموافق الثامن عشر من أكتوبر "يوم التبادل" أنَ مُنتقدي الصفقة" هم أصواتٌ "نشاز" وبصفتي رئيساً لنادي الأسير الفلسطيني الذي هو امتدادٌ أصيلٌ لتجربة الحركة الأسيرة وجزءٌ لا يتجزأ منها، ولأنني لا أتطلع لأحدٍ أن يخلع علي منصباً أو مالاً أو مكانةً لا من سيادة الرئيس ولا من قيادة فتح ولا من السيد خالد مشعل أو قيادة حماس (مع الاحترام طبعاً لهم جميعاً) فإنني سأواصل عرض رأيي على الرأي العام الفلسطيني الذي أحترمه وأُجله وأُقدره، وهو الذي يُقرر ما إذا كان صوتي نشازاً أم أنه صوت من تجري المحاولات لكتم صوتهم ! ولتحويلنا إلى جوقةٍ من المُطبلين والمُزمرين والمُنافقين... وقد تعلمتُ في مدرسة السجن أن لا أكون منهم، و تعلَمتُ في السجن أيضاً أن لا أخدم أحداً لشخصه وإنما أن أخدم شعبي وأنسجم مع عقلي وضميري.

وتوخياً للدقة.. فإنني أرى أنَ عملية جلعاد شاليط هي من شقين: الأول: الشق العسكري العملياتي، وهنا فإنني أنحني أمام عظمة أولئك الأبطال الشهداء منهم والذين ظلوا على قيد الحياة الذين خطَطوا ونفَذوا وحافظوا على جلعاد شاليط، لمدة خمس سنوات، أما الشق السياسي التفاوضي فهو الذي سأتناوله بالنقد بسبب الأخطاء الكبيرة التي شابت هذه الصفقة:

أولاً: رفع سقف توقعات الأسرى وعائلاتهم والمواطنين بشكلٍ عام، وذلك من خلال سلسلة البيانات والتصريحات الرسمية الصادرة عن أُطر وقيادات حركة حماس. إضافةً إلى الوعود الشخصية لعائلات الأسرى ورسائل وصلت السجون لأشخاصٍ مُحدَدين من كافة التنظيمات.

ممَا تسبَب في حالة إحباطٍ أو صدمةٍ لكل هؤلاء.

ثانياً: الموافقة على الإبعاد... ويعلم الشعب الفلسطيني أنَ الإبعاد عقوبةً لجأ إليها الانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي الذي أبعد مئات الكوادر المناضلة على مدار سني النضال الفلسطيني، وقد استمعتُ وقرأتُ شهاداتٍ لبعض الأخوة الذين وصفوا الإبعاد بأنه أقسى عقوبة.. ورأيتُ بأم عيني أخوةً مناضلين وقد اغرورقت عيونهم بالدموع وهم يُودعوننا في السجون أثناء تنفيذ عمليات الإبعاد، إضافةً إلى أنَ أكثر من قائدٍ في الصف الأول في حماس قال على الملأ بأننا لن نقبل بأن نُحول صفقة التبادل إلى صفقة إبعاد.

ثالثاً: : قيادة الصف الأول أو رموز المرحلة – أو أمراء المقاومة كانوا ووفقاً لحماس أداة قياسٍ لنجاح الصفقة وطالما أُعلن بشكل صريح أنَ هؤلاء يمثلون خطاً أحمراً لا يُمكن تجاوزه. لكننا وجدنا أنَ الصفقة تجاوزتهم جميعاً، حيث وعلى مدار سنوات كان هذا الموضوع هو عنوان الخلاف الذي أعاق تنفيذ الصفقة طبعاً إلى جانب موضوع الإبعاد. وإذا ما قسنا هذه الصفقة على الصفقات التي سبقتها فقد تمَ في السابق تحرير كافة الرموز الذين مثلوا عناوين لمرحلتهم النضالية كأبطال عمليات " سافوي" و"الساحل" و"الدبوية" و"عين البيضة" ومعركة" دير القرنطل" وعملية "الثلاجة".. إلخ فكل هؤلاء تم تحريرهم وبلا استثناء، فلماذا استثنت الصفقة هؤلاء الأخوة؟؟ فإذا لم يخرجوا في سياق صفقة تبادل في ظل وجود جنديٍ أسيرٍ فمتى وكيف وفي أي ظروفٍ سيتحررون. وهو سؤالٌ مطروحٌ على الجميع وليس فقط على من أنجز صفقة التبادل.

رابعاً: الأسيرات صُعقتُ حين علمتَُ أنَ حماس لم تكن تعلم أنَ عدد الأسيرات هو (36) أسيرة، ويحضرني هنا قول الشاعر "إن كنت تدري فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم" وهذا يقودني للتساؤل إن كنتم لا تعرفون فلماذا لديكم وزارة للأسرى وماذا كان يعمل طاقمها طيلة السنوات الماضية؟ وإن كانوا لا يعلمون لماذا لم تسألوا أو تطلبوا مساعدة الآخرين طالما أنَ الصفقة وطنية، ولماذا أوقعتم أنفسكم في هذا الحرج الكبير وغير المبرر.

خامساً: إلزام الأسرى المحررين بتوقيع وثيقة أعدَها جهاز المخابرات الإسرائيلي، وهي الوثيقة التي يوقع الأسير عليها للاتزام بعدم القيام بأي عمل نضالي ضد الاحتلال، أو وفقاً لمفردات الوثيقة "عملاً إرهابياً" ضد إسرائيل. الأمر الذي انتبه إليه الأسرى بعد أن وقَع عددٌ منهم ثم تداركوا الأمر ممَا عطَل الإجراءات ليومين ثم استبدلت تلك الورقة بأُخرى مكتوبٌ عليها أن المحرر مُلزم بكل ما نص عليه الاتفاق، إنَ الموافقة على هذا البند في الاتفاق يعني أنَ تعريض المناضلين لموقفٍ طالما رفضوه لأنه يحط من كرامتهم وكبريائهم وهم الذين آمنوا بقضيتهم وبحقهم في مقاومة الاحتلال.

سادساً: الموافقة على القيود المفروضة على الأسرى الذين تحرروا داخل الوطن، حيث على بعض الأسرى أن يذهبوا مرةً كل شهرين لمقرات الإدارة المدنية للتوقيع، وقد يظن البعض أنَ الأمر بسيط جداً في حين أنَ المناضلين الذين سيذهبون إلى مكاتب الإدارة المدنية سيتعرضون إلى مواقف لا تليق بمناضل يمثل حالة رمزية – خلال انتظاره وطريقة مخاطبة الجنود له كعادتهم في معاملة المواطنين الذين يضطرون لمراجعة هذه المقرات، وسؤالي لماذا نُعرض الأخوة الأعزاء لمثل هذه المواقف المهينة.

سابعاً: عدم الالتزام بالمعايير والتقاليد الوطنية المرعية في حالات التبادل، وهي نفس المعايير التي أعلنت عنها حماس، حيث قالت بأنها ستكون صفقةً وطنيةً وبعيدةً عن الفصائلية، وأنَ الأولوية ستكون للمرضى والقدامى وكبار السن والأسيرات ورموز وقادة المقاومة .. والمُتتبع لحيثيات الصفقة والعارف بتفاصيل تركيبة الحركة الأسيرة يُدرك أنهم سجَلوا اختراقاً تقريباً لكل معيارٍ وضعوه لأنفسهم، فالعديد من المرضى المصابين بأمراضٍ خطيرةٍ كالسرطان والإعاقة الكلية بسبب رصاص الاحتلال والذين أمضوا ما يزيد عن ربع قرنٍ في السجون، إضافةً إلى الرموز الأساسية للمقاومة الفلسطينية، قد تمَ استثناءهم من الصفقة، وإذا نظرنا إلى التقسيمة الفصائلية للحركة الأسيرة قبل الصفقة نجد أنَ عدد أسرى حماس يساوي حوالي 30% من إجمالي عدد الأسرى، بينما حصة حماس من الصفقة تزيد عن 80 %.. أي بشكلٍ مُعاكسٍ للنسبة العددية للأسرى.

ثامناً: عدد الصفقة برأيي هو 477 أسيراً وأسيرةً، وليس كما يُقال 1027، لأنَ الشق الثاني من الصفقة والبالغ 550 أسيراً بعد أن عاد جلعاد شاليط إلى أُسرته سيبقى مرهون " بكرم الإسرائيليين وجهاز مخابراتهم" فهم لم ولن يحترموا أي التزامٍ حتى في اتفاقياتٍ رسميةٍ ومُشهد عليها دولياً وتجربتنا كفلسطينيين معهم مريرة، أمَا الحديث عن اتفاقٍ لإعادة الأوضاع في السجون لما كانت عليه قبل أسر جلعاد شاليط، فواقع الحال في السجون لم يتغير، فالمعزولين ما زالوا في زنازينهم، وأهالي قطاع غزة ما زالوا ممنوعين من زيارة أحبائهم، ولذلك ليت الأُخوة المفاوضين ينشروا وثيقة الصفقة لنقرأها ويقرأها الأسرى، فإذا كان فيها بنداً يتحدث عن شروط الحياة في السجن، فمن المؤكد أنهم سيستخدمونه في مفاوضاتهم مع إدارة السجون ممَا يُسهل عليهم المهمة.

حاولتُ جهدي التجرد وإبعاد هذا الموضوع عن الجدل الحزبي المقيت والسائد في بلادنا منذ وقتٍ طويلٍ على اعتبار أنَ قضية الأسرى هي قضية وطنية جامعة لا يختلف عليها اثنان، إلا أنَ البعض أراد الزَج بها في ذات السياق المرضي، حيث يعتقد هؤلاء أنَ المقاومة يجب أن تكون فوق النقد وكل ما يأتي منها كأنه من عند الله سبحانه وتعالى، على الرغم من أنَ الله عزَ وجل في عُلاه قد خاطب نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بعد معركة بدر في الآية الكريمة: "ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض .. إلى آخر الآية" صدق الله العظيم، فلماذا لا نُقيم نحن البشر أخوةً لنا يُصيبون ويُخطئون فهم غير معصومين.. وجلَ من لا يُخطئ. وإذا كانت إسرائيل الآن مُنشغلة في تقييم العملية والصفقة لاستخلاص العبر والدروس، أوليست الصفقة حدثاً كبيراً يستدعي التوقف أمامها مُطولاً ودراستها من كافة جوانبها وتسجيل كافة الملاحظات للاستفادة منها مستقبلاً، بدلاً من اللجوء للسب والشتم والذم ضدَ من ينتقدها كما حصل مؤخراً على مواقع حركة حماس الألكترونية باستخدام ألفاظ وتعبيرات وشتائم لا تليق بفلسطيني مناضل ومُسلم، وهنا أود أن أسأل الأخوة في قيادة حماس هل تسمحوا في بيوتكم أو مكاتبكم أن تُستخدم مثل هذه الألفاظ الغير لائقة..؟ أسأل وأنا أعرف الإجابة بأنَهم يرفضون مثل هذا الكلام البذيء والسفيه، وهذا يقودني للسؤال، لماذا لا تُشطب كل جملةٍ غير لائقة وأن نُكرس تقاليدٍ راقيةٍ في الحوار وممارسة الاختلاف والتقييم.

*رئيس نادي الأسير الفلسطيني

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required