مفتاح
2024 . الأربعاء 3 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 
كان عمري عشر سنوات عندما وقعت نكبة فلسطين. ولقد كنت شاهد عيان لما جرى في مدينتي "اللد"، وشاهد عيان على ما جرى في حي الموظفين في مصلحة قطارات سكة الحديد حيث كنت أقيم مع والدّي وإخوتي.

فبعد يومين من سقوط المدينة بأيدي القوات الإسرائيلية، جاءت سيارة جيب تحمل ثلاث جنود وضابط وطلبوا مقابلة من يمثل الحي. فخرج بعض الوجهاء المسنين لمقابلتهم. ووجه الضابط أليهم سؤالا: هل تريدون السلام أم الحرب؟ لقد سقطت المدينة بأيدينا. وكان الرد أننا نريد السلام.

وعندما إستيقظنا في صبيحة اليوم التالي كان مئات الجنود المدججين بالسلاح الخفيف يجوبون شوارع الحي، ثم جاءت سيارة جيب تحمل مكبرا للصوت لتعلن للسكان أنهم الآن تحت الإحتلال الإسرائيلي، وطلب منا أن نلتزم بيوتنا، ويقوم كل شخص بحوزته أسلحة أو ذخيرة بتسليمها للضابط المسؤول. وقال أيضا أن كل من يخالف هذا الأمر ستنزل به عقوبات شديدة قد تصل إلى درجة الإعدام.

وهكذا، خلال ليلة وضحاها، تحولنا من أكثرية إلى أقلية، أكثرية كانت تعيش قبل أربع وعشرين ساعة في وطن لهم إسمه فلسطين، واليوم يقولون أن هذا الوطن ليس لنا ، وأن إسمه إسرائيل بإعتراف العالم.

ولكن بالنسبة لي وبالنسبة لأصدقائي الصغار لم نشعر بهذا التغيير الكبير. فما زلنا نلعب تحت نفس الشجرة التي كنا نلعب تحتها قبل أيام. الفرق الوحيد كان، أن علينا إلتزام منازلنا لأن هناك من فرض منع التجول مساءا، شيء لم يكن واضحا بالنسبة لي ولإصدقائي، وكنا نتساءل بأي حق يفرضون علينا ذلك؟

وبعد أيام من الإحتلال، جاءت سيارة الجيب اللعينة، وطلب الضابط بواسطة مكبر الصوت من جميع السكان أن يتركوا بيوتهم مفتوحة ويتوجهون كلهم إلى ملعب كرة القدم. فكان لا بدّ من تلبية الأوامر. وهرع السكان بأولادهم إلى الملعب.

ثم طلب من كل عائلة كان ربها يعمل في مصلحة سكة الحديد أن تقف إلى جانب معين في الملعب والآخرين على الجانب الثاني، ووقفت عائلتي مع العاملين في مصلحة سكة الحديد بسبب عمل والدي معها. والأخرون كانوا لاجئين جاءوا من قرى سبق وأحتلتها القوات الإسرائيلية تقع بين مدينة يافا واللد، على سبيل المثال قرى: سلمه وبيت دجن ويازور والسافرية وغيرها. وسكنوا في معسكر كبير أقامه الجيش البريطاني لجنوده في حينا وتركوه عندما رحلوا من فلسطين.

وفجأة ظهرت سيارات شحن، وقامت القوات الإسرئيلية بتعريب اللاجئين حيث إعتقلوا كل شخص من عمر 17 سنة إلى 60 سنة ووضعوهم في الشاحنات، وبدأت النساء تصرخ. وعلى الفور جرت إشاعة كالبرق تقول أنهم يريدون أن يقتلوهم. وكانت الأخبار في ذلك الوقت قد وصلت من مدينتي اللد والرملة، عن المجازر التي قام بها اليهود في المدينتين، ودار الحديث عن وقوع مئات القتلى والجرحى وتشريد السكان.

ولكن الضابط المسؤول حاول أن يهدئ من روع النساء والصغار الذين يصرخوا بأسماء أزواجهنّ وأباءهم بقوله: سنأخذهم مؤقتا إلى الأسر وسيطلق سراحهم قريبا.

فبعد فترة قال الضابط بمكبر الصوت أيضا: على جميع العائلات التي يعمل ربها في مصلحة السكة الحديدية العودة إلى منازلها بإنتظار أوامر جديدة. أما الباقون فإن لديهم فترة ساعتين، يستطيعون العودة إلى منازلهم وأخذ ما يريدون، ثم يأتون إلى مدخل الحي حيث سيأتي الصليب الأحمر لأخذهم إلى الأردن.

فعدنا إلى بيوتنا. ورأينا جحافل اللاجئين تمر من أمامنا، يحملون ما يستطيعون حمله، ويسيرون إلى المكان المحدد. طبعا كان لي من بينهم أصدقاء ألعب معهم، فقمنا بعض الأولاد وأنا، بمرافقتهم إلى أن فصلنا الجنود وخطوط سكة الحديد. ولوحنا لبعضا وقلنا: سوف نلتقي.

وفي صبحية اليوم التالي، وبعد إنتهاء ساعات منع التجول، سارعت لأرى ماذا حدث للأصدقاء. وفوجئت ومن كان معي هناك، أنهم لا زالوا في مكانهم، وناموا تلك الليلة في الشارع بإنتظار سيارات الصليب الأحمر التي ستنقلهم. ولكن هذا لم يحدث.

وفجعنا ثانية لما شاهدنا. فقد جاء جنود إسرائيليون يحملون مدافع رشاشة من طراز "ستينغان"، واخذوا بطرد اللاجئين أمام أعيننا قائليين بصوت عال: ياالله يالله على عبدالله. والقصد كان للملك عبدالله ملك شرقي الأردن في حينه. وبكينا جميعا .

هكذا بدأت النكبة في حينا، نكبة مر عليها 64 سنة ولا تزال مستمرة، والجميع يحيون ذكراها كي لا يُنسى الوطن. وأذكر أنني عدت إلى البيت مع عيون حمراء من شدة البكاء.

وبعد فترة إلتقينا ببعض أهالي اللد الذين إستطاعوا أن يصلوا إلى الكنيسة والمسجد في المدينة وبقوا تحت الإحتلال. وسمعنا قصص المذابح التي وقعت في المدينة، وكيف قام المقاتلون اليهود بطرد السكان. وعرفنا فيما بعد أن سكان المدينة مشوا على الأقدام أياما من اللد إلى رام الله ومات منهم من مات في الطريق ونجا أصحاب الحظ من الموت المحدق. لقد وصل عدد سكان المدينة قبل إحتلالها مع اللاجئين الذين هرعوا أليها حوالي 70 الف نسمة، لم يتبق منهم بعد الإحتلال سوى ألفين (إذا لم تخني الذاكرة).

وخلال رحلة العمر قرأت الكثير من التبريرات والأكاذيب التي تطلقها إسرائيل وتشيعها الصهيونية لما حدث في وطني، وكيف أن الفلسطينيين تركوا بلادهم ولم يطردهم أحد، بل أن القادة العربهم الذين طلبوا منهم الخروج وإنتظار يوم العودة القريب، الشيء الذي لم يستطع أي مؤرخ أو باحث جدي أن يثبت هذا الإدعاء.

ففي كل محاضرة ألقيتها في الغرب عن هذا الموضوع كان يوجه إليّ نفس السؤال: لماذا قبلوا الفلسطينيون إقتراح القادة العرب بترك بلادهم؟ ولكن النكبة فرضت نفسها على الرأي العام العالمي وحتى الإسرائيلي. واصبح في إسرائيل وجهة نظر تطالب الحكومة بالسماح للفلسطينيين في إسرائيل أن يتذكروا نكبتهم. فقد نشرت صحيفة "هآرتس" في يوم ذكرى النكبة (15/5/2012) مقالا إفتتاحيا عنوانه: "لنحترم النكبة".

ولكن قادة إسرائيل في هذه الأيام يحاربون النكبة بكل الوسائل، لدرجة أن وزير االتربية والتعليم، جدعون ساعر، لمح لجامعة تل ــ أبيب بأن عليها منع إحتفال بذكرى "النكبة".

فقادة إسرائيل مستمرون اليوم في تطوير النكبة عن طريق المجازر المستمرة وسرقة الأراضي، وإقامة المستعمرات اليهودية، ونسف منازل السكان العرب. وبالإضافة إلى كل ذلك يحاولون سن قوانين صارمة بالنسبة للنكبة.

وستبقى النكبة قائمة ما دام هناك الملايين من اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين، وما دام هناك كفر برعم وإقرت وغيرهما، وما دام الفلسطينيون غير حاصلين على إستقلالهم ودولتهم المستقلة. هناك حسب آخر الإحصائيات أكثر من 11 مليون فلسطيني وسيبقون يذكرون نكبتهم حتى يحصلون على حقوقهم.

* كاتب وصحافي فلسطيني يقيم في واشنطن. - FAsmar1@aol.com

 
 
اقرأ المزيد...
 
 
لنفس الكاتب
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required