مفتاح
2024 . الثلاثاء 2 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 

اتفاقية اوسلو لم يكن اتفاقا سياسيا فقط، فقد اثر عميقا على بنية المجتمع الفلسطيني وتركيبته وسلوكه ايضا، و على مدى تسعة عشر عاما، تعرض هذا المجتمع مرة ثالثة لاختلالات واهتزازات عميقة، اذ تقلص الاعتماد على العمل في اسرائيل الى حد كبير، وتحولت السلطة الفلسطينية الى المشغل الاكبر، الامر الذي ادى الى عودة متواضعة للطبقة الوسطى - دون الدخول في تعريفاتها - التي اثبتت انها هشة وضعيفة ومغيبة ولم تستطع ان تمثل ذاتها او تدافع عن مصالحها، ولهذا لم نشاهد احزاباً جديدة او قوى اجتماعية مؤطرة غير قوة العشيرة التي عادت الى ظهور بقوة متزايدة بسبب عنف الاحتلال وانخفاض هيبة السلطة، وتلكؤ القضاء او تعطيله او تشويهه، وكذلك بسبب العودة الى الانماط الاجتماعية المتوارثة والمقبولة –وغير المتعبة والأكثر سهولة- في إدارة الحكم.

طريقة الانتخابات وشكلها وظروفها و الأطر التي رافقتها عززت من قوة العشيرة على حساب الحزب او الفصيل او السلطة و حتى على حساب المصالح العليا ،الامر الذي يمكن القول معه ان القبيلة هي الشكل الاجتماعي الاكثر متانة مقابل انهيار كل الاشكال الاخرى بسبب الفشل او نقص التمثيل او قوة الاقناع ، و لذلك فان الانتخابات عندنا -و هذا مجرد رأي متواضع- لا تعكس بالضرورة اتجاهات عامة يمكن البناء عليها او الركون اليها، و لهذا رأينا بالذات لماذا تفاجانا عدة مرات من نتائج الانتخابات او طريقة ادائها.

التباس مفهوم السلطة الفلسطينية و ولايتها الجغرافية و تداخل القوانين مع ما رافق ذلك من ظواهر الفهلوة و الاستزلام و المحاور و القوى و مراكزها جعل من راس المال الاستثماري يهرب او يتراجع او لا يغامر كثيراً ، الامر الذي ادى الى ترسيخ ظاهرة الاستثمار في قطاع الخدمات بشكل واسع ،بما يتميز به من الرغبة في الربح السريع و التسويات العلنية و السرية و عدم الاهتمام بالجوانب التنموية المختلفة للمجتمع، مما خلق فجوة في الاجور و الظروف و السلوك و الاداء، و قد انعكس ذلك في مظاهر بحبوحة من العيش كاذبة او مخادعة.

ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الاسرائيلي و تدفق الاموال السياسية -لاستمرار الاتفاق- و ظهور قطاع الخدمات بشكل كبير و تكاثر المنظمات غير حكومية بكثرة لافتة و مثيرة للسؤال و كذلك الاعتماد على السلطة في التوظيف خلق ما يشبه اليوفوريا الاجتماعية التي تميزت بانقلابات حادة حادة في السلوك الشخصي و العام ،فقد ظهرت -ربما لاول مرة في المجتمع الفلسطيني- نسب عالية من الجريمة وخاصة فيما يسمى جريمة الشرف -و هي ليست كذلك ابداً- و السرقة بانواعها المعروفة و المستوردة ،و لأول مرة ايضاً، يظهر ما يسمى بجريمة "الاغذية الفاسدة" كما زادت نسبة العنف المدرسي و الاسري و المجتمعي بارقام غير عادية.

السلوك الاستهلاكي و المتعوي الذي اظهره الفلسطيني في اراضي السلطة الفلسطينية اثر كثيراً في مشاركته السياسية و تحصيله العلمي ايضا، فقد تراجع المد الجماهيري و الدافعية المجتمعية، كما تغيرت صورة المقاوم و المناضل، و تراجعت الشعارات و قوتها و تأثيرها، و بهت الذكريات والشخصيات، كما تراجع التحصيل العلمي و الابداعي بسبب عوامل كثيرة و مختلفة و من ضمنها ارتباك المنهاج المدرسي حجماً و مضموناً و رسائل.

هذا السلوك الاستهلاكي المتعوي أيضاً انطوى على رغبة الاستسلام العام لمجريات الأمور، فبالاضافة الى شلل المؤسسات العامة و على رأسها المجلس التشريعي، هناك ايضاً ضعف في الصحافة الفلسطينية التي لم تستطع أن تثير القضايا الكبرى أو تلامسها أو تحفر تحتها و لم تعمل و لم تقم بدور سلطة رابعة حقيقية، وبهذا الصدد قد يسجل ذلك الدور لبعض محطات الراديو و المواقع و ليس في كل الاحيان ،و ليس من الصدفة أن تمر قضايا كبيرة و هامة دون متابعة صحفية حثيثة، و هي ملاحظة تثبت ان القوى المؤثرة في مجتمعنا، الذي يفترض انه مجتمع مناضل و يقبع تحت احتلال و عليه أن يكون شفافاً و صريحاً، ما زالت هي هي لم تتغير، و أن القوى الاجتماعية على اختلافها اقوى من المؤسسة الحزبية أو الحكومية، بل أكثر من ذلك، فإن التغطية الصحفية المختلفة ما تزال تخضع للانتماءات المتعددة بدلاً من التغطية التي تحل مشكلة و لا تزيدها اشتعالاً. الاستسلام لمجريات الأموربدا واضحاً في خيام الاعتصام من أجل المصالحة الفلسطينية، و في مسيرات و اعتصامات الاسرى و ضد الاستيطان ،الى درجة اننا اخذنا نستورد متضامنين اجانب، مع احترامنا و تقديرنا العميق لهؤلاء و لمن ينظم امورهم و يسهل دخولهم. ضعف الصحافة و شللها يقابله ايضاً ضعف المؤسسات المدنية و اكتفائها بادوار معينة لا تحيد عنها أو تتجاوزها، التباساً في الدور أو تنفيذه أو ضعفاً في التمويل أو ارتباكاً في الرسالة.

الظواهر الاجتماعية الاخرى كانتهاج الوساطة و الرشوة و المحسوبية الجهوية و القبلية و الفصائلية هي نتاج طبيعي لتداخل المهام و عدم وضوحها و عدم نضجها و عدم نقدها و عدم كشفها و عدم محاسبتها أو الحديث عنها لغياب الارادة و لغياب المؤسسة و لغياب الشخص و لغياب الضامن القانوني و لغياب العقاب، تبدو فكرة العقاب عندنا غريبة جداً حتى داخل الفصيل الواحد، بحيث يصبح المسيء و المصلح في وضع واحد، هذا اذا لم يتقدم المسيء لأنه اكثر مالاً و أكثر ولداً.

و في وضع مثل هذا، يغيب فيه الأمن الشخصي و الأمن العام بسبب الاحتلال، و تسود فيه قوانين القوة العشائرية القائمة على العدد و العديد، و في ظل طغيان قيم الاستهلاك، و في ظل فساد من نوع ما، فإن الفساد من أي نوع يحتاج الى فساد من نوع اخر ليستمر، و هكذا، فإن ما نراه من مظاهر مستفزة و صادمة ليست إلا نتاج هكذا وضع.

هذا الوضع الاستثنائي جداً، حيث تريد السلطة أن تتطور تحت سقف الاحتلال، و هو أمر شبه مستحيل، و حيث ان هذه السلطة- و بعد تسعة عشر عاماً- ما تزال تعيش على مساعدات اشبه بالاغاثة منها بالتنمية، و حيث احتلال يهيئ نفسه لاحتلال ابدي، فإن هذه التناقضات لا بد لها أن تطفو على السطح، فقراً مدقعاً، و تمايزاً بين الفئات، و اختلافاً في مرجعيات الحل و العلاقة مع المحتل، و هجرة عقول و كفاءات، و نقصاً في الموارد و الثروات، ونقصاً في السيادة و الكرامة، و احساساً بالعجز و الدونية،و اختلافاً في الأولويات. المشكلة هنا أننا و الاسرائيليون توهمنا اننا صنعنا سلاماً ما، سلاماً غير مثالي و غير مريح و لكنه سلام يفصل بيننا على الأقل، سلام لا يجعلنا نرى الوضع الذي حشرنا انفسنا فيه، وهو وضع يدفع اسرائيل الى العنصرية حقاً، و يدفعنا نحن الى اقاصي العذاب.

تسعة عشر عاماً من اتفاق اسلو لم نعد نزرع- ليس بسبب مصادرة الاراضي و مطاردة المستوطنين و مصادرة 99% من مصادر المياه فقط- بل لأننا استبدلنا الحقل و الحديقة بالسوبر ماركت و المول أيضاً، و لم نعد نؤسس الجمعيات الخيرية التي تقدم الخدمات البسيطة لأهل الحي أو أهل القرية بل استبدلناها بالمؤسسة غير الحكومية الممولة، و لم نعد نقترض من صناديق الخير بل اسرعنا الى البنوك لنسلمها رقابنا و أرواحنا.

و المرعب في الأمر كله حقاً، ان مشروعنا الوطني- دون ان نحدد الآن ملامح هذا المشروع و مضامينه و أدواته- يتآكل و يذوي أمام اعيننا دون ان نبدع حلولاً اخرى غير تلك الحلول التي لم تعد تخيف أو تستدعي ملاحظة أحد. اسرائيل حتى الآن ، فصلت القدس عن باقي الاراضي الفلسطينية بثلاثة أنواع من الجدران، و فصلت المحافظات عن بعضها البعض بحواجز و بوابات و فصلت اراضي الضفة عن مناطق 1948 بجدار لا يخترقه الرصاص، و نحن مفصولون عن غزة، جغرافياً و سياسياً- و لا حول و لا قوة الى بالله- فلأي امر تستعد اسرائيل. بالمناسبة، قوة الحاجز العسكري انه لا يعاقب الناس بمنعهم من الحركة فقط ،بل يطور مصالحهم بمرور الوقت بما يخدم مصالح الاحتلال ذاته. ان كل هذه الحواجز بأنواعها تعني ان اسرائيل مستعدة لكل احتمال. اسرائيل ماضية في تفكيكنا بما ينسجم مع مخططات الغرب الكبرى في تفكيك العالم العربي و تذريره ، اما نحن... و رغم كل شيء، فإن بقاءنا على ارضنا، احياءً أو أمواتاً، لهو افضل و أروع و أنقى ما نفعل.

 
 
اقرأ المزيد...
 
 
لنفس الكاتب
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required