نظمت مؤسسة الدراسات الفلسطينية في مدينة رام الله، قبل أيام، ندوة حول آفاق واستخلاصات ما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة (14-21 تشرين الثاني/نوفمبر 2012) على قطاع غزة، وما بعد تصويت الأمم المتحدة على صيغة الدولة غير العضو في 29/11/2012، تحدث فيها د. رائف زريق، الأستاذ الجامعي في حيفا، ود. أحمد عزم، الأستاذ في جامعة بيرزيت، بالإضافة الى صاحب هذه المداخلة، التي نورد هنا جانباً منها:
لا شك أن الحدثين (حصيلة الحرب الأخيرة على غزة، والتصويت في الأمم المتحدة على قبول فلسطين كدولة مراقب غير عضو) يسجلان في خانة المكاسب الفلسطينية، دون إغفال الحجم الهائل والمؤلم للتضحيات البشرية والدمار الواسع في قطاع غزة. فالحرب الإسرائيلية الجديدة على قطاع غزة اصطدمت بقدرات المقاومة هناك على الرد، وهي قدرات لم تكن متوقعة من الجانب المعتدي، والمقصود تحديداً كمية الصواريخ متوسطة المدى، التي وصل عدد منها الى منطقة تل أبيب ومشارف القدس ومنطقة بئر السبع في النقب، وهي صواريخ لم يتمكن نظام "القبة الحديدية" المتطور من إيقاف سوى أقل من ثلثها. وبمعزل عن استمرار عدم التناسب الهائل في الخسائر البشرية والمادية بين الجانبين المعتدي والمعتدى عليه خلال هذه الحرب، كما خلال الحرب السابقة في شتاء 2008- 2009، إلا ان التأثير المعنوي على الجانب الإسرائيلي لهذا التطور لدى الطرف الفلسطيني المقاوم في غزة كان أكبر بكثير، ولعب بالتأكيد دورا في لجم مشروع العملية البرية واستعجال الحكومة الإسرائيلية للدعوة الى وقف إطلاق النار. أما قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، فقد أظهر استمرارية التأييد العالمي الواسع للحقوق الوطنية الفلسطينية، بالرغم من كل ما قامت به إسرائيل خلال العقود الثلاثة الماضية من حروب وعمليات قتل وتدمير منهجية وتصفيات للقيادات والنشطاء واعتقال للآلاف من المواطنين، علاوة على تكثيف رهيب للإستيطان في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين عام 1967، وكلها في سياق محاولة مبرمجة لتبديد احتمال الإستقلال الفلسطيني ولبث اليأس والإحباط في صفوف الشعب الفلسطيني، في الأراضي المحتلة وخارجها. وما لفت الإنتباه إيجاباً على صعيد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة وقوف غالبية دول الإتحاد الأوروبي (14 من أصل 27 دولة عضو) الى جانب الإعتراف بالدولة - وهو تطور ليس بعيداً عن قراءة الأوروبيين لنتائج الحرب الأخيرة على غزة - ، مقابل امتناع 12 دولة أخرى من الاتحاد، بينها دول كانت تعتبر حكوماتها قريبة من إسرائيل، مثل ألمانيا وهولندا، وبقيت حتى الأيام الأخيرة تتردد بين التصويت ضد الطلب الفلسطيني والإمتناع. وحدها جمهورية تشيكيا من بين دول أوروبا صوتت ضد مشروع القرار، وهو موقف يحتاج الى تدقيق في أسبابه. خاصة وأن العديد من دول أوروبا الشرقية العضو في الإتحاد الأوروبي، والتي عملت إسرائيل على استمالتها وبناء علاقات مميزة معها منذ انهيار الإتحاد السوفييتي والدول الحليفة المجاورة له، لم تعترض على الطلب الفلسطيني وإنما امتنعت عن التصويت. والى جانب دول الإتحاد الإوروبي الـ 27، صوتت عدة دول أوروبية غير عضو في الإتحاد لصالح القرار، من بينها النرويج وسويسرا وأيسلندا. وبهذا التصويت للنرويج وأيسلندا، تكون الدول الإسكندنافية الخمس قد صوتت كلها لصالح القرار (الثلاث الأخرى هي السويد وفنلندا والدانمرك). ويلفت الإنتباه،، بالمقابل تغيب دولة كبيرة مثل أوكرانيا، كبرى جمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق بعد روسيا، عن حضور جلسة التصويت. وإذا كان الإمتناع أو التغيب أقل إشكالية من التصويت سلباً، إلا ان الامتناع الواسع لعدد من دول اوروبا الشرقية التي كانت حكوماتها السابقة قد اعترفت بإعلان الإستقلال الفلسطيني في أواخر الثمانينيات الماضية يدفع الى التدقيق أيضاً في أسباب هذا التحول: وهذه الدول، مثل بلغاريا وألبانيا وهنغاريا ورومانيا وبولندا وسلوفاكيا (التي كانت جزء من تشيكوسلوفاكيا)، بالإضافة الى دول البلطيق الثلات (استونيا، لاتفيا، ليتوانيا) وجمهورية مولدوفا، والدول الأربع الأخيرة كلها كانت جزء من الإتحاد السوفييتي السابق، تبدو بذلك متخلفة عن مواقف معظم دول أوروبا الغربية في هذا التصويت. وحدها بيلوروسيا، من بين جمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق الأوروبية، صوتت الى جانب القرار، مع روسيا بالطبع. وكذلك صوتت الجمهوريات السوفييتية السابقة الواقعة في آسيا الوسطى (أذربيجان، كازاخستان، أوزبكستان، طاجيكستان، قيرغيزيا)، وهي دول ذات أغلبية مسلمة، الى جانب القرار، وكذلك صوتت كل من أرمينيا وجورجيا، السوفييتيتين السابقتين أيضاً، الى جانب القرار. أما مونغوليا الآسيوية، التي كانت دولة قائمة بذاتها ومرتبطة بعلاقة تحالفية مع الإتحاد السوفييتي في الماضي، فقد امتنعت بدورها عن التصويت. والشيء نفسه ينطبق على كافة المكونات السابقة لجمهورية يوغسلافيا (سلوفينيا، كرواتيا، الجبل الأخضر، البوسنة والهرسك، مقدونيا)، التي امتنعت كلها عن التصويت، باستثناء صربيا التي صوتت الى جانب القرار. ولفت الإنتباه أيضا امتناع أستراليا عن التصويت بعد أن كانت رئيسة الحكومة هناك تميل شخصياً الى التصويت ضد الطلب الفلسطيني، لكنها ووجهت بمعارضة واسعة من وزير خارجيتها وكبار شخصيات حزبها، حزب العمال، وتحت تهديداتهم لجأت الى تغيير الموقف نحو الإمتناع. هذا، في حين صوتت نيوزيلاندا المجاورة الى جانب القرار. كما صوتت إيجاباً كذلك غالبية كبرى من دول أميركا اللاتينية والكاريبي، ودول إفريقيا وآسيا الشرقية والجنوبية، بما في ذلك اليابان والهند. وكاد تصويت الدول المسلمة أو ذات الأغلبية المسلمة يكون بالإجماع لصالح القرار، لولا امتناع ألبانيا المثير للإنتباه، وهي ليست دولة ذات أغلبية مسلمة فحسب، وإنما هي كانت حتى قبل عقدين من الزمن ترفع لواء الإشتراكية المستقلة عن الإتحاد السوفييتي والصين على حد سواء. هذا مع العلم بأن جمهورية البوسنة والهرسك هي دولة مختلطة تتشكل من ثلاث مجموعات إثنية- ثقافية كبيرة، المسلمون والكروات والصرب. أما كوسوفو، كما هو معروف، فليست عضواً في الأمم المتحدة. انفراج داخلي قابل للتطوير.. وعموما، فإن الحدثين أوجدا إنفراجاً داخليا فلسطينيا هو الأكثر إيجابية منذ العام 2007، حيث برز هناك تضامن شعبي وسياسي فلسطيني كاسح مع غزة في مواجهة العدوان، من جهة، وموقف شبه إجماعي متبن وداعم لمطلب الإعتراف في الأمم المتحدة، من جهة أخرى. وهذا المناخ الإيجابي المشجع يفتح المجال أمام إمكانية تطويره باتجاه صيغة توافق متقدمة تمهيداً لتوفير شروط إعادة توحيد صفوف الشعب الفلسطيني وقواه الفاعلة من أجل إنهاء الإحتلال والظلم التاريخي الواقع عليه. أما إذا كان هذا المناخ سيقود الى استعادة وحدة سياسية ممأسسة فعلا، فهذا ما ليس واضحاً حتى الآن. وإن كان كل مواطن فلسطيني يأمل بأن يتحقق هذا التوحيد لتدعيم الجهد الضروري لمواصلة ما تبقى من الطريق النضالي الطويل لتأمين جلاء قوات الإحتلال ومستوطنيه عن الأراضي المحتلة عام 1967 وتأمين سائر الحقوق الفلسطينية في هذه المرحلة. ذلك ان وحدة ممأسسة تتطلب اتفاقاً سياسياً أبعد وأعمق من مجرد إعطاء الإنطباع بالتوافق كما جرى في اتفاق مكة في مطلع العام 2007، الذي لم يدم مفعوله طويلاً. فالمهمة المطروحة هي بناء مؤسسات موحدة فاعلة تعيد الثقة والوحدة للشعب الفلسطيني ليس فقط في الضفة الغربية وقطاع غزة وإنما في كافة مناطق وبلدان التواجد الفلسطيني. ولكن وحدة كهذه تتطلب اتفاقا على رؤية استراتيجية، للمرحلة القريبة القادمة على الأقل، أي لكيفية استكمال الطريق نحو إنهاء الإحتلال المباشر للضفة الغربية والإحتلال غير المباشر لقطاع غزة. ومن الواضح ان هذا التوافق الإستراتيجي لم تنضج شروطه بعد، وإن كان من الحيوي والضروري أن يتم بذل أقصى الجهود للتوصل إلى إنضاجها، إستناداً الى المناخ الإيجابي الحالي. ومن الواضح أن كل طرف من الطرفين الرئيسيين في الخلاف القائم، منذ العام 2007 على الأقل، ليس مستعداً حتى الآن ليلتحق باستراتيجية عمل الطرف الآخر. وبما ان الوحدة الفعلية تتطلب التوافق على مسار إستراتيجي واضح مقبول من طرفي أو أطراف الخلاف الداخلي، ومن الشعب الفلسطيني بمجمله، فإن مزيداً من الجهود مطلوب بذلها لتحقيقها. وحتى إن لم تتوفر شروط وحدة كاملة كهذه، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية بالضرورة، فأية درجة أعلى من التوافق والتلاقي الحاصلين راهناً هي إنجاز، تساهم في الإنضاج اللاحق لشروط هذه الوحدة المأمولة. يبقى القول ان ما يجري في المحيط العربي في مناخ الثورات الشعبية من تحرر زاحف من قيود التبعية والإتفاقات التي عقدت في الماضي من موقع الضعف، بعد التخلص من أنظمة الإستبداد والفساد، يصب في نهاية المطاف لصالح النضال الفلسطيني. وهو ما برز بشكل أولي خلال الحرب على غزة وإتفاق وقف إطلاق النار، الذي تم التوصل إليه بوساطة مصرية، كما ظهر كذلك من خلال توافد العديد من الشخصيات والوفود الرسمية العربية، والتركية أيضاً، على قطاع غزة أثناء الحرب وبعدها. وهذا المنحى سيتعزز بالضرورة مع الزمن، بمعزل عن المراحل الإنتقالية والمخاضات المؤلمة التي تمر بها بلدان الثورات، وخاصة بالنسبة لنا مصر، الدولة الأكبر والأكثر تأثيراً على الوضع الفلسطيني ومجمل الوضع الإقليمي من بين دول الجوار. وعلى خلفية قرارات حكومة نتنياهو الإنتقامية على صعيد حجز الأموال المستحقة للجانب الفلسطيني وتوسيع الحركة الإستيطانية لتغيير معالم الضفة الغربية والقدس الشرقية ولمواصلة تحطيم مشروع الإستقلال الفلسطيني، الى جانب تصعيد الإعتقالات واجتياحات مدن الضفة الغربية المحتلة، من الواضح ان استنهاض كل عناصر القوة الذاتية الفلسطينية في الوطن وفي أقطار اللجوء والشتات، واستجماع كل الدعم والتأييد الشعبي العربي والإقليمي، واستثمار كل التعاطف الدولي، ستساهم في المستقبل القريب في دفع مسيرة الشعب الفلسطيني التحررية الى الأمام وفي إحداث تغيير متواصل لموازين القوى الإجمالية لغير صالح الإحتلال، بحيث تنفتح آفاق وضع حد لهذا الحجم الهائل من الظلم الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني منذ أكثر من ستين عاماً. وبهذا المنظار، سيسجل أن شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012 كان محطة هامة على هذا الطريق. * كاتب ومفكر فلسطيني- رام الله. - dtal18.83@gmail.com اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
×
احتباس النشر والمواءمة والمساواة- إحاطة أولية بنقاش تقرير ‘سيداو’
أثارت ملاحظات المجتمع المدني على أداء الفريق الوطني في اجتماع لجنة اتفاقية القضاء
على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، حفيظة الجهات الرسمية المعنية. لا غرابة في ذلك،
أمر مستوْعَب في الحالة الفلسطينية الداخلية، لا يُهضم النقد جملةً وتفصيلاً.
لم تخرج الملاحظات التي أبداها المجتمع المدني عن الموضوعية. من خلال الاطِّلاع على الأدبيات المصاغة على يد الفريق الحكومي: التقرير الوطني والرد على قائمة الأسئلة المقدمة من قبل لجنة الاتفاقية والطروحات والردود المقدمة على الأسئلة الجديدة المطروحة في الجلسة السبعين المنعقدة مع لجنة الاتفاقية في مقر الأمم المتحدة في «جنيف». جميع الملاحظات التي طرحها المجتمع المدني جديّة وحقيقية وتحليلية ومعرفيّة. أذكر أن وفود المجتمع المدني إلى الاجتماع مع لجنة الاتفاقية ذهبت وهي محمَّلة بالمخاوف والقلق، بسبب احتباس الإرادة السياسية كما اُخْتُبِرتْ في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني (نيسان- أيار 2018)، والامتناع عن تنفيذ قرارات المجلس المركزي المتخذة في اجتماعاته المنعقدة في عامي 2015 و 2018، تلك القرارات المعززة لمشاركة المرأة القاضية بتخصيص مقاعد للمرأة في جميع بُنى ومؤسسات الدولة بنسبة 30% من المقاعد. أضاع المجلس فرصة نظامية مُتاحة لوْ توفرت المصداقية، واختتم الاجتماع دون وضع الصيغة لتجسيد القرار. في النتيجة، احتقان وفجوة وأزمة ثقة بين المؤسسات النسوية والطبقة السياسية. عُقد أكثر من اجتماع مع لجنة الاتفاقية بينما الأسئلة المهمة معلَّقة على إرادة متداعية. سؤال نشر الاتفاقية في الجريدة الرسمية بالاستناد إلى القانون الأساسي الفلسطيني المُعدل. سؤال التوجه نحو المواءمة بموجب الانضمام للاتفاقية والمرجعيات المحلية ممثلة بإعلان الاستقلال والقانون الأساسي. سؤال قرار المحكمة الدستورية (تشرين الثاني 2017) الذي قررت بموجبه "سموّ الاتفاقيّات الدولية على التشريعات المحلية بما يتواءم مع الهوية الوطنية والدينية والثقافية للشعب العربي الفلسطيني." في الجلسة السبعين؛ سمعنا بعض الإجابات على الأسئلة المبدئية التي تلخص نوايا الجهة الرسمية، إجابات أعادتنا إلى الحالة المتشكلة ما قبل الانضمام الفلسطيني المُمَيَّز إلى الاتفاقية دون تحفظ. سابقة عربية جديدة من نوعها في حساب البيدر بينما تتكشف الحقيقة بعد زوال القشرة اللامعة مخلفة بقاء المحتوى على حاله. الردود التي تقدم بها الفريق الحكومي لم تكن وليدة اللحظة، أكدت التخوفات من أن التوقيع لم يتعدَّ كونه توقيعاً سياسياً مع جملة من الاتفاقيات والمعاهدات. وهي الردود التي تخلخل أساس الاتفاقية، وتهزّ بشدة ركائزها وحجر رحاها ممثلاً بالمساواة دون انتقاص. ولغايات الاقتراب من الواقع كما هو البعيد عن الانطباعات نطرح ما سمعناه في الاجتماع مع الفريق الحكومي بحضور صامت للمجتمع المدني: أولاً: قالوا إن الاتفاقية لن يتم نشرها إلا بعد استكمال عملية مواءمة. عدم النشر يلغي التزامات الدولة تجاه التوقيع والمصادقة وفق القانون الأساسي. يحول الانضمام إلى شبح يمكن أن يحضر شكلاً في الخطاب ويختفي فعلياً في الجوهر. استخدام الاتفاقية شبيه بالملابس التي يتم ارتداؤها على وجْهَيْها، التجمل بأحد الوجهين أمام المجتمع الدولي، وطمأنة الاتجاهات السلفية المحلية ونيل الرضا في الوجه الآخر. ثانياً: قالوا إنه لن يتم التعامل مع مبدأ المساواة، بل سيتم إدماجه في عملية المواءمة دون ذكر المصطلح بالاسم! بما يعني إبقاء التمييز ضد المرأة وضَرْب أساس الاتفاقية وجوهرها ومحتواها بدءاً من عنوانها: مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة..؟! ثالثاً: قيل إن الحكومة طلبت رأياً تفسيرياً لقرار المحكمة الدستورية حول قرار المحكمة الدستورية واشتراطها اتفاق عملية المواءمة مع الهوية المحلية. تم تجاهل السجال الجاري في فلسطين حول قانونية قرار المحكمة المتهم بمعارضة القانون الأساسي وصلاحيات المحكمة. علاوة على أن القرار بحد ذاته يُعَدُّ بمثابة تحفظ عام على الاتفاقية وعلى مقاصدها الحقوقية، بل يندرج في إطار التجزئة وانتقائية التعامل المزدوج مع الاتفاقيات الدولية. ما سبق غيض من فيض من ملاحظات المجتمع المدني على أدبيات الحكومة وردودها. وفي التفاصيل حيث تختبئ الشياطين يوجد ما يُقال. لكن لا يمكن إغفال أن النقاش والسجال صِحّي، لكنه حوار عن بُعْد؛ يفتقد إلى القنوات المنظمة بما يوصل السياق الداخلي إلى حالة مشحونة بالاصطفاف والاحتقان والشخصنة الضّارة. والأسوأ انه يفتعل التصادم بين المرجعيات دونما سبب إلا تعالي أطراف المصلحة على الواقع. بعد عامين سنكون على موعد جديد مع تقرير جديد، يرصد التقدم المُحْرز المحدد ضمن المؤشرات المهنية يُجيب على توصيات اللجنة وملاحظاتها المنبثقة على أثر اجتماع «جنيف». وبقناعتي، حَرِيٌ بالمعنيين في المستوى الرسمي الذهاب الى النقاش مع المجتمع المدني لتحديد اتجاه البوصلة، وقف التصادم بين المرجعيات التي تتمتع جميعاً بالمقاصد والمبادئ الحقوقية: الكرامة والعدالة والمساواة للجميع..هذا ما تنادي به نساء البلد وأن يمثل أمام لجنة الاتفاقية المؤسسة السياسية التنفيذية والتشريعية والمؤسسة الدينية، القابضين على بالقرار. بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
×
نميمة البلد: والمسكوت عنه في الوطني... المرأة وفشل المجلس الوطني
(1) فشل المجلس الوطني فشل المجلس الوطني مرتان، الأولى قبل أن تنفض جلساته وقبل قراءة وإعلان بيانه الختامي في التعاطي مع قرارات المجلس المركزي الخاصة بالكوتا النسوية، بضمان تمثيل المرأة بما لا يقل عن 30% في جميع مؤسسات منظمة التحرير ودولة فلسطين، وابقاءه في حالة "التوهان" بترحيله الى وضع اليات التنفيذ، وكأن قرار المجلس المركزي يحتاج الى اليات لا يستطيع وضعها المجلس الوطني أو أن قمة الهرم في منظمة التحرير غير مواتية لوجود النساء. والثانية لعدم قدرته تنفيذ قراره سواء في تضمين البيان الختامي للفقرة التي تم إقرارها والمتعلقة بصرف رواتب موظفي قطاع غزة "فورا" أو قرار الرئيس المعلن في الجلسة الختامية. وهنا الفشل سياسي أكثر منه اجرائي بحيث لا يتم التعامل مع المجلس الوطني باعتباره السلطة التشريعية الأعلى للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجه من قبل السلطة الحاكمة. وهي تعيد الأحجيات السابقة المتمثلة "مَنْ مرجعية مَنْ المنظمة أم السلطة". (2) المسكوت عنه في المجلس الوطني صدر البيان الختامي للمجلس الوطني صباح الجمعة الفارطة دون ذكر للنقاشات او السجال المتعلق بتوسع صلاحيات المجلس المركزي الفلسطيني بحيث يتولى جميع مسؤوليات المجلس الوطني الفلسطيني أي أن يصبح بديلا عن المجلس الوطني لتكريس مقولة أن هذا آخر مجلس الوطني، أو مدة ولايته أو توسيع صلاحياته ليحل محل المجلس التشريعي، وفي ظني أن البعض لا يعلم ان المجلس المركزي يتولى جميع الصلاحيات بين دورتي انعقاد المجلس الوطني، بقرار من المجلس الوطني في دورته السابعة عشر المنعقدة في العام 1984، باستثناء الصلاحيات الخاصة بانتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية وتعديل النظام الأساسي والميثاق الوطني، وإلغاء قرارات المجلس الوطني. تبنى البيان الختامي للمجلس الوطني قرارات المجلس المركزي الصادرة في العام 2015 وكذلك في منتصف شهر كانون ثاني/ يناير من ذها العام. لكن دون تقديم آلية واضحة أو تحديد آجال محددة. الامر الذي يبعث على الدهشة إذ لم تنفذ اللجنة التنفيذية السابقة قرارات المجلس المركزي آنذاك! فهل لها أن تنفذ اللجنة التنفيذية الجديدة هذه القرارات؟ في حين أن البنية والتركيبة السياسية للجنة الجديدة لم يحدث فيها تغييرا جوهريا كما أن المجلس الوطني لم يحدث الانعطافة السياسية أو التغيير في المسار السياسي. النقاش الذي جرى على ارتفاع متوسط عمر أعضاء اللجنة التنفيذية الجديدة في المقال الأسبوع الذي جاء تحت عنوان "68 سنة متوسط اعمار أعضاء اللجنة التنفيذية الجديدة"؛ بكل تأكيد المسألة ليست بالسنوات ذاتها لكن بما تحمله من تبعات، فكما ذهبت إليه الصديقة المقدسية غادة الزغير في تعليقها، "أن هناك علاقة طردية بين السن والاستعداد للتغيير "أو المخاطرة" وكلما ارتفع العمر كلما مال الشخص نحو المحافظة على ما هو قائم وطلب الستر والمشي جنب الحيط تحت مسمى الحكمة، وكذلك المحافظة على الامتيازات التي يتمتع بها" وهي طبيعة بشرية في علاقة الكبار في العمر ليس فقط في الحياة العامة بل في الحياة الخاصة. ملاحظة: ورد خطأ في مقال الأسبوع الماضي أن 27% من أعضاء اللجنة التنفيذية هم من اللاجئين فيما ان النسبة هي 40%. وفي كل الأحوال فإن القراءة المقدمة في المقال الفارط تفتح الافاق لقراءة معمقة لتركيبة أعضاء اللجنة التنفيذية ليس فقط اللجنتين الأخيرتين بل لجميع اللجان التي تم اختيارها لقيادة الشعب الفلسطيني لفهم التحولات السيسولوجية في إحدى أهم مؤسسات النخبة السياسية الفلسطينية.
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
×
اليكم عدد العاطلين عن العمل في الضفة وغزة
أفاد الجهاز المركزي للإحصاء بأن عدد العاطلين عن العمل في 2017 بلغ حوالي 364 ألف شخص، بواقع 146 ألفا في الضفة الغربية، و218 ألفاً في قطاع غزة، وبلغ معدل البطالة في فلسطين 27.7% في العام 2017، وما يزال التفاوت كبيرا في معدل البطالة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث بلغ في قطاع غزة 43.9%، مقابل 17.9% في الضفة الغربية. ونوه في بيان استعرض خلاله الواقع العمالي في فلسطين 2017، عشية الأول من أيار، عيد العمال العالمي، إلى أن الارتفاع في معدلات البطالة للنساء أكثر منه للرجال مع زيادة هذه الفجوة في الأعوام الأخيرة، حيث بلغ المعدل للذكور 22.5% في العام 2017، بينما بلغ معدل البطالة للإناث 47.8% للعام ذاته. وجاء في البيان: مشاركة الرجال في القوى العاملة حوالي 4 أضعاف مشاركة النساء بينت النتائج بأن نسبة القوى العاملة المشاركة في فلسطين للأفراد 15 سنة فأكثر بلغت 45.3% في العام 2017، ومن الواضح أن الفجوة في المشاركة في القوى العاملة بين الذكور والإناث ما زالت كبيرة، حيث بلغت نسبة مشاركة الذكور 70.9%، مقابل 19.0% للإناث في العام 2017، وبلغت نسبة المشاركة في القوى العاملة في الضفة الغربية 45.3% مقابل 45.1% في قطاع غزة. 666 ألف عامل مستخدمون بأجر يقدر عدد الفلسطينيين المستخدمين بأجر من فلسطين 666 ألف عامل، بواقع 333 ألف عامل يعملون في الضفة الغربية و221 ألف عامل يعملون في قطاع غزة و92 ألف عامل يعملون في إسرائيل و20 ألف يعملون في المستوطنات. بينما بلغ عدد المستخدمين بأجر في القطاع الخاص 351 ألف عامل من فلسطين؛ بواقع 231 ألف عامل من الضفة الغربية، و120 ألف عامل من قطاع غزة. القطاع الخاص هو القطاع الأكثر تشغيلاً في فلسطين 52.7% من المستخدمين بأجر في العام 2017 يعملون في القطاع الخاص، بينما بلغت نسبة المستخدمين بأجر في اسرائيل والمستوطنات 16.8%، في حين بلغت النسبة للقطاع العام 30.5% في العام 2017. أكثر من نصف المستخدمين بأجر يعملون في القطاع الخاص بواقع 52.0% في الضفة الغربية و54.3% في قطاع غزة مقابل 22.9% يعملون في القطاع العام في الضفة الغربية و45.7% في قطاع غزة، في حين 25.1% من المستخدمين بأجر في الضفة الغربية يعملون في إسرائيل والمستوطنات. حوالي ربع المستخدمين بأجر في القطاع الخاص يعملون في مهن فنية ومتخصصة بلغت نسبة المستخدمين بأجر في القطاع الخاص الذين يعملون في مهنة الفنيين والمتخصصين 23.6% من فلسطين؛ 14.4% للذكور مقابل 67.6% للاناث. في حين بلغت النسبة للمستخدمين العاملين في الحرف وما اليها من المهن 17.0%؛ 20.0% للذكور مقابل 2.3% للاناث. معدلات أجور حقيقية متدنية في القطاع الخاص بلغ معدل الأجر اليومي الحقيقي (سنة الأساس= 2010) للمستخدمين بأجر في القطاع الخاص في فلسطين حوالي 71 شيقل في العام 2017 ، حيث بلغ الأجر الحقيقي في قطاع غزة حوالي 44 شيقل، بالمقابل بلغ الأجر الحقيقي حوالي 84 شيقل في الضفة الغربية (لا يشمل العاملين في اسرائيل والمستوطنات). سجل قطاع النقل والتخزين والاتصالات أعلى معدلات للأجور اليومية الحقيقية في القطاع الخاص في الضفة الغربية بمعدل 106 شيقل، يليه قطاع البناء والتشييد بواقع 96 شيقل، أما في قطاع غزة فقد سجل قطاع الخدمات أعلى معدلات للأجور اليومية الحقيقية في القطاع الخاص بمعدل 71 شيقل، يليه قطاع البناء والتشييد بمعدل 42 شيقل. بينما سجل قطاع الزراعة أدنى معدل أجر يومي في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة بواقع 65 شيقل و24 شيقل على التوالي. حوالي 36% من المستخدمين بأجر في القطاع الخاص يتقاضون أجراً شهرياً أقل من الحد الأدنى للأجر (1,450 شيقل) في فلسطين 16.2% من المستخدمين بأجر في القطاع الخاص في الضفة الغربية يتقاضون أجراً شهرياً أقل من الحد الأدنى للأجر أي 37,500 مستخدم بأجر وبمعدل أجر شهري قدره 1,079 شيقلاً في العام 2017. أما في قطاع غزة فقد بلغت النسبة 74.0% أي 88,800 مستخدم بأجر وبمعدل أجر شهري قدره 731 شيقلاً. في سياق متصل، بلغ معدل ساعات العمل الأسبوعية للمستخدمين بأجر حوالي 42 ساعة عمل؛ 40 ساعة للمستخدمين بأجر في القطاع العام و43 ساعة في القطاع الخاص خلال نفس العام. حوالي خمس المستخدمين بأجر في القطاع الخاص يحصلون على تمويل التقاعد 21.8% من المستخدمين بأجر في القطاع الخاص يحصلون على تمويل التقاعد أو مكافأة نهاية الخدمة، و21.8% يحصلون على إجازات سنوية مدفوعة الأجر، و21.0% يحصلون على إجازات مرضية مدفوعة الأجر، و35% من النساء العاملات بأجر يحصلن على إجازة أمومة مدفوعة الأجر. أكثر من ربع المستخدمين بأجر في القطاع الخاص يعملون بموجب عقود عمل 25.4% من المستخدمين بأجر في القطاع الخاص يعملون بموجب عقد عمل في فلسطين؛ 26.2% في الضفة الغربية و23.9% في قطاع غزة في العام 2017. حوالي خمس المستخدمين بأجر في القطاع الخاص منتسبين لنقابات عمالية/ مهنية 17.4% من المستخدمين بأجر منتسبين الى نقابات عمالية/ مهنية في فلسطين؛ 12.4% في الضفة الغربية و29.6% في قطاع غزة في العام 2017.
لنفس الكاتب
تاريخ النشر: 2011/11/23
×
كيف عملت أمريكا وإسرائيل على تهشيم منظمة التحرير وتهميشها بين 1974 و1993؟
كان العام 1974 عاماً مهماً في تاريخ الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية. ففي هذا العام، وفي الربع الأخير منه تحديداً، اعترفت القمة العربية التي انعقدت في العاصمة المغربية الرباط بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، بعد نقاشات ومواجهات طويلة داخل القمة، تمكّن خلالها الوفد القيادي الفلسطيني من تحقيق هدفه بالحصول على إقرار القمة بهذه الصفة التمثيلية للمنظمة.
وانطلاقاً من هذا القرار الرسمي العربي الجماعي، جرى استقبال رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عرفات في الجمعية العامة للأمم المتحدة ليلقي كلمة فيها، وليكون بذلك أول متحدث رسمي باسم الشعب الفلسطيني يخاطب هذه الهيئة الدولية الأهم. وفي الدورة ذاتها، تم إقرار التعامل مع منظمة التحرير كعضو مراقب الى منظمة الأمم المتحدة. جهود كيسنجر الحثيثة لنزع أوراق القوة العربية... والفلسطينية هذه التطورات لم تكن مرحباً بها من قبل الإدارة الأميركية، وبالطبع من قبل الإسرائيليين. فقد بذل هنري كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك وأحد كبار استراتيجيي السياسة الكونية الأميركية في النصف الثاني من القرن العشرين، كل جهده لمنع حصول هذا التطور من خلال التدخل المباشر لدى عدد من الدول العربية للحؤول دون صدور قرار الإعتراف بمنظمة التحرير في قمة الرباط العربية. وحتى بعد فشله في تحقيق هدفه، استمر بعد القمة في جهوده الحثيثة لإجهاض مفاعيل قرارها. وكان كيسنجر قد بدأ التعاطي المكثّف مع الصراع العربي- الإسرائيلي ابان حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 العربية – الإسرائيلية، وإن لم يكن ذلك تدخله الأول في قضايا المنطقة منذ توليه موقع مستشار الأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون في مطلع العام 1969، ثم وزارة الخارجية في أيلول/سبتمبر من العام 1973. حيث قام في آنٍ واحد بضمان توفير كل الدعم التسليحي لإسرائيل خلال الحرب، وبعدها، بهدف منع تحقيق الجانب العربي لانتصار عسكري حاسم وكبير، وكذلك بمتابعة مرحلة ما بعد الحرب لمنع التثمير السياسي للإنجاز العربي الجزئي فيها. وهو ما بدأ به من خلال إتفاق فك الإشتباك الأول بين القوات الإسرائيلية والقوات المصرية حول قناة السويس في 18/1/1974، ثم واصله باتفاق فصل آخر بين القوات الإسرائيلية والسورية في الجولان في 31/5/1974، وما كرّسه بشكل أوسع وأمتن في اتفاق فك الإشتباك الثاني بين مصر وإسرائيل في أوائل أيلول/سبتمبر 1975. كما خطط وعمل، قبل الحرب وبعدها، على استبعاد الإتحاد السوفييتي، بشتى الأساليب، من أي دور ذي شأن في الإشراف على عملية التفاوض لحل النزاع العربي - الإسرائيلي في الشرق الأوسط، بما في ذلك من خلال تعطيل فعالية ودور المؤتمر الدولي الذي كان من المفترض أن يرعى تسوية النزاع، والذي انعقد جولة شكلية واحدة في مدينة جنيف السويسرية. كما عمل كيسنجر على تحجيم مجمل دور الإتحاد السوفييتي وحضوره في المنطقة، كتوجه استراتيجي للسياسة الأميركية. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية تُعتبر آنذاك، من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، على صلة وثيقة مع الإتحاد السوفييتي. وحتى الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، الذي أقام علاقات وثيقة مع هنري كيسنجر بعد حرب 1973، أفصح لاحقاً في حديث مباشر له مع رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغن، بعد فترة وجيزة من زيارته (إي السادات) للقدس في أواخر العام 1977، عن الرأي ذاته بلغة فجة: فقد بثت إذاعة إسرائيل كلاماً منسوباً الى السادات في حديث ثنائي خاص مع بيغن، قال فيه بأن "زعماء منظمة التحرير هم عملاء للإتحاد السوفييتي". وقد ذكر وزير الخارجية المصري الأسبق محمد إبراهيم كامل، الذي شغل هذا الموقع بين أواخر العام 1977 وأيلول/سبتمبر 1978 حين قدم استقالته أثناء مفاوضات كامب ديفيد، انه سمع هذا الكلام أثناء وجوده في القدس على رأس الجانب المصري من اللجنة المصرية- الإسرائيلية السياسية التي تقرر تشكيلها وعقدت اجتماعها الأول بين 16 و18/1/1978. ونَقلَ كامل في كتابه "السلام الضائع" عن مناحم بيغن، الذي راجعه بشأن بث هذا الخبر في الإذاعة الرسمية، بأن السادات قال هذا الكلام فعلاً، ولكن ليس هو (أي بيغن) الذي سرّب هذا الخبر الى الإذاعة. وبيغن لم يكن بحاجة طبعاً للتحريض ضد منظمة التحرير والشعب الفلسطيني. وواصل كيسنجر جهوده لاستبعاد ومحاربة منظمة التحرير في تحركاته اللاحقة على اتفاقي فك الإشتباك في المنطقة. فقدم لرئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، إسحق رابين، في صفقة فك الإشتباك الثاني التي وقّعت رسمياً في جنيف في 4 أيلول/سبتمبر 1975 بين إسرائيل ومصر، رسالة تعهد سرية تقضي بعدم فتح حوار أميركي مع منظمة التحرير الفلسطينية أو الإعتراف بها إلا بعد أن تقبل بقراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 و338 وتعترف بحق إسرائيل في الوجود. وأُضيف من قبل الكونغرس الأميركي في أواسط الثمانينيات شرط ثالث للحوار مع المنظمة، وهو "نبذ الإرهاب". وهي الشروط الثلاثة التي بقيت كل الإدارات الأميركية اللاحقة ملتزمة بها. وكان من الواضح، طبعاً، للطرفين الإسرائيلي والأميركي ان إلزام منظمة التحرير الفلسطينية بهذه الشروط يشكّل عملياً، في حال حصول تجاوب من قبل المنظمة، نزعاً لأهم الأسلحة والأوراق التي بيد مركز القرار الفلسطيني. بل هو يعني ضمناً شكلاً من أشكال إلغاء الذات من الجانب الفلسطيني، وهو ما كان الإسرائيليون يسعون إليه. فالقرار 242 لمجلس الأمن الذي صدر في أواخر العام 1967 لا يشير إطلاقاً الى الشعب الفلسطيني أو الى الحقوق الفلسطينية، حيث ان الأطراف العربية المعنية به هي دول الجوار التي انخرطت، أو بالأحرى أستُهدفت، في الحرب التي جرت في أواسط ذلك العام، وهي مصر وسوريا والأردن بالأساس. والإشارة الوحيدة التي يمكن أن تُفسّر بأنها تعني الشعب الفلسطيني بشكل ما في هذا القرار تمثّلت في البند الذي يتحدث عن ضرورة "إنجاز حل عادل لمسألة اللاجئين". وهذه الصيغة لا تحدد ولا تصف من هم اللاجئون المعنيون هنا. وكان ذلك مقصوداً في سياق الغموض المطلوب لتمرير القرار في مجلس الأمن بموافقة كافة الأطراف، بما فيها إسرائيل، حيث أشار الجانب الإسرائيلي لاحقاً الى أن هذه الصيغة تعني أيضاً "اللاجئين اليهود" الذين كانوا في الدول العربية حتى العام 1948 وانتقلوا الى إسرائيل (ومعروف الآن أنهم انتقلوا بإيعاز وتشجيع إسرائيليين). والقرار 338 لمجلس الأمن الذي صدر بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 لا يفعل إلا أن يؤكد على البدء، بعد وقف القتال بين الأطراف العربية وإسرائيل، بتنفيذ القرار 242 والولوج في المفاوضات بهدف إنجاز "سلام عادل ومستدام في الشرق الأوسط"، دون أية إشارة الى الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير، مرة أخرى. وهكذا، فإن القبول الفلسطيني بالقرارين، كما هما، لا يبدو منطقياً. وهو ما يفسّر المحاولات العديدة اللاحقة التي قامت بها منظمة التحرير بعد حرب 1973، بدعم من عدد من الدول العربية ومن الإتحاد السوفييتي لإستصدار قرار جديد في مجلس الأمن يُطوّر القرار 242 بحيث تشير الصيغة الجديدة الى الحقوق الوطنية الفلسطينية، وخاصة حق تقرير المصير. وهي محاولات تصدت لها الولايات المتحدة باستمرار. ولذلك لم يتحقق أي نجاح في تغيير أسس التفاوض المعتمدة من قبل الولايات المتحدة، الطرف الدولي الوحيد المؤثر على إسرائيل بشكل جاد. في حين كانت إسرائيل ترفض التعامل مع قرارات مجلس الأمن الأخرى غير القرارين المذكورين. وهذه القرارات تناولت حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية وأدانت ضم إسرائيل للقدس الشرقية المحتلة عام 1967 كما إدانت سياسة الإستيطان الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، ناهيك عن تجاهل إسرائيل لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة العديدة، الأكثر وضوحاً. واتضح الأمر بشكل أكبر في مفاوضات كامب ديفيد التي جرت في أيلول/سبتمبر 1978 بين الرئيس المصري الأسبق أنور السادات ورئيس الحكومة الإسرائيلية مناحم بيغن بمشاركة ورعاية رئيس الولايات المتحدة آنذاك جيمي كارتر. حيث أصرّ بيغن على استبعاد أية مشاركة لمنظمة التحرير ولأي فلسطيني من خارج الضفة الغربية وقطاع غزة، أو حتى من القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل عنوةً إليها، في المفاوضات اللاحقة المنصوص عليها في اتفاق الإطار المتعلق بالتعاطي مع الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد أصرّ بيغن أثناء المفاوضات وبعدها على اعتبارهذه الأراضي "أراضي محررة"، وفق تعبيره، وأصرّ على تسميتها "يهودا والسامرة وغزة" في النص العبري للإتفاقات مع مصر. حيث بنى كل مقترحه للحكم الذاتي في قطاع غزة والضفة الغربية، دون القدس، على أساس التعامل مع سكان هذه المناطق حصراً دون غيرهم من الفلسطينيين، وكان يُطلق على فلسطينيي الأراضي المحتلة تعبير "عرب أرض إسرائيل"، وفق قاموسه التوراتي الخاص به. كما تمسّك بـ"حق" إسرائيل اللاحق، أي بعد المرحلة الإنتقالية للحكم الذاتي، بضم هذه المناطق، وهو ما أوضحه بدون لبس أثناء مفاوضات كامب ديفيد وبعدها، في تصريحات علنية. أي انه كان يرى في الحكم الذاتي عملياً حلاً نهائياً. وهو الموقف الذي استمر قادة حزب الليكود الذين خلفوه حتى الآن على التمسك به. وواصل بيغن، بعد كامب ديفيد وبعد التوقيع على المعاهدة المصرية- الإسرائيلية في 26/3/1979 وفي المفاوضات المصرية- الإسرائيلية حول الحكم الذاتي في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد ذلك، تمسكه بموقفه هذا، مستبعداً أي تمثيل فلسطيني له علاقة بمنظمة التحرير من قريب أو بعيد، حتى ولو كان من شخصيات فلسطينية مستقلة تعيش في الولايات المتحدة مثلاً، كما ورد في اقتراح للرئيس المصري السادات أثناء إحدى مراحل التفاوض. وحتى داخل هذه الأراضي المحتلة، تعرّض رؤساء البلديات المقربون من منظمة التحرير في الضفة الغربية المحتلة، والمنتخبون في العام 1976، للإضطهاد والملاحقات التي شملت كذلك العديد من الشخصيات الوطنية والمناضلين الآخرين في الأراضي المحتلة، الى أن تم في العام 1982 إقالة ثمانية من رؤساء هذه المجالس البلدية المنتخبة "متهمين" بالعلاقة مع منظمة التحرير. وجرت محاولات بعد ذلك لاصطناع قيادة محلية بديلة موالية للإحتلال من خلال صيغة "روابط القرى" التي ضمت عدداً من الأفراد الذين لا علاقة لهم بمنظمة التحرير، وهي صيغة لم تحقق نجاحاً يُذكر بالنسبة لإسرائيل، ودخلت لاحقاً في طي النسيان. هجمات عسكرية، وسياسية، لـ"شطب" منظمة التحرير وآريئيل شارون، الذي كان وزيراً للزراعة في حكومة مناحيم بيغن الأولى بين العامين 1977 و1981، ثم أصبح في آب/أغسطس 1981 وزيراً لـ"الدفاع" في الحكومة الثانية لمناحيم بيغن بعد فوز الليكود المتجدد في انتخابات الكنيست في حزيران/يونيو من العام ذاته، كان الداعية الأكثر إندفاعاً لهذه السياسة التي تستهدف ضرب نفوذ منظمة التحرير في الأراضي المحتلة. وهو نفسه الذي سيقوم بتتويج سياسة محاربة منظمة التحرير هذه ومحاولة شطبها، من خلال شن الحرب الشاملة على قواتها ووجودها في لبنان، وعلى لبنان ذاته، ابتداءً من أوائل حزيران/يونيو 1982، بضوء أخضر من إدارة رونالد ريغن الأميركية ووزير خارجيته آنذاك ألكساندر هيغ، الذي زاره شارون في واشنطن وطرح عليه خطته لضرب المنظمة وإعادة ترتيب الوضع في لبنان عندما التقاه يوم 25/5/1982، أي قبل أيام قليلة من بدء الحرب. وبعد هذه الحرب، تواصلت جهود الولايات المتحدة إثر خروج قوات منظمة التحرير وقيادتها الرئيسية من لبنان في أواخر آب/أغسطس وأوائل أيلول/سبتمبر 1982، لتحقيق الإستثمار السياسي لهذا "الإنجاز" الإسرائيلي. علماً بأن الصمود الفلسطيني واللبناني الوطني طوال زهاء الثلاثة أشهر من الحصار الإسرائيلي لبيروت الغربية واحتلال مناطق واسعة من لبنان أفشل المشروع الأساسي لآريئيل شارون بـ"القضاء على منظمة التحرير" وقادتها جسدياً، مما اضطر شارون ورئيس حكومته بيغن الى القبول بمغادرة قوات المنظمة للبنان. فقبل أن تستكمل القوات الفلسطينية مغادرة لبنان، طرح الرئيس الأميركي رونالد ريغن في 1/9/1982 مشروعه الشهير، الذي عُرف بعد ذلك بـ"مبادرة ريغن"، والقاضي بحل المعضلة الفلسطينية من خلال صيغة يكون فيها الأردن هو الطرف الذي ترتبط به الأراضي الفلسطينية التي يمكن أن تنسحب منها إسرائيل بعد المرحلة الإنتقالية التي نصت عليها اتفاقات كامب ديفيد، مع التوفيق بين "هموم إسرائيل الأمنية المشروعة" و"الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني"، كما جاء في نص "المبادرة"، التي نصت على استبعاد قيام دولة فلسطينية مستقلة، كما لم تشر الى أي دور لمنظمة التحرير. ورغم تقاطع هذا المشروع مع الكثير من المواقف الإسرائيلية المعروفة، إلا ان مناحيم بيغن قام فوراً برفضه واستبعاده بحدّة. وبقي بذلك هذا المشروع حبراً على ورق، وصرفت إدارة ريغن أي اهتمام لها بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي طوال السنوات اللاحقة من حكمها وحتى الأشهر الأخيرة منه. لكن بعض الأفكار الواردة في المشروع، والمشتقة من إتفاقات كامب ديفيد، ستعود الى الواجهة في مرحلة لاحقة. وتواصلت بعد ذلك عدة محاولات إسرائيلية لمد الخيوط التفاوضية مع الأردن، في مرحلة كانت فيها منظمة التحرير في حالة من الإرتباك بعد الخروج من لبنان وتوزُّع القوات والقيادات الفلسطينية جغرافياً، وبعد الإنقسامات التي شهدتها حركة "فتح" ومجمل الساحة الفلسطينية. وهذه المحاولات الإسرائيلية تكثفت بشكل خاص بعد تشكيل حكومة إئتلافية إسرائيلية ضمت حزبي العمل والليكود إثر انتخابات الكنيست في العام 1984، وتولي زعيم حزب العمل شمعون بيريس لرئاسة هذه الحكومة لنصف مدة ولايتها، أي بين العامين 1984 و1986، ثم توليه (إي بيريس) وزارة الخارجية حتى العام 1988 تحت رئاسة إسحق شامير، زعيم الليكود بعد استقالة مناحم بيغن. وقد نشط بيريس خلال السنوات الأربع من عمر الحكومة الإئتلافية هذه في محاولة عقد صفقة مع الأردن بشأن الأراضي المحتلة. وهي محاولة لم تنجح، وتجمّدت بعد أن أعادت الإنتفاضة الشعبية الفلسطينية في الأراضي المحتلة، في الشهر الأخير من العام 1987، خلط الأوراق وإفشال محاولات شطب منظمة التحرير والدور الفلسطيني الخاص، ثم بعد أن قرر الأردن فك الإرتباط الإداري مع الضفة الغربية المحتلة في أواسط العام 1988. وكما هي العادة في السياسات الأميركية، عدّلت الإدارة الأميركية بعض الشيء سياستها بعد انطلاق الإنتفاضة الفلسطينية، ولكنها لم تتوقف عن مساعيها لإجهاض وتحجيم الحقوق الفلسطينية والإلتفاف على التمثيل الفلسطيني المستقل واستبعاد فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة فعلاً، بدءً بمحاولة إجهاض الإنتفاضة وإفشال أهدافها. حيث قام وزير الخارجية الأميركية آنذاك جورج شولتس بعدد من الزيارات للمنطقة، وطرح مبادرة خاصة في مطلع آذار/مارس 1988 لتطبيق مشروع الحكم الذاتي في الأراضي الفلسطينية المحتلة ضمن مُهَل زمنية أقصر من تلك الواردة في إتفاقات كامب ديفيد وفي مشروع ريغن. لكن رئيس الحكومة الٍإسرائيلية، اسحق شامير، رفض مبادرة شولتس أيضاً. وكانت شخصيات الأراضي الفلسطينية المحتلة الوطنية قد رفضت قبل ذلك، وبتنسيق مع قيادة منظمة التحرير، حضور لقاء مع شولتس حين دعاها الى الإلتقاء به أثناء زيارة له للقدس. وفيما تواصل القمع الإسرائيلي للإنتفاضة في الأراضي المحتلة و"تكسير عظام" شبانها، وهي السياسة التي اشتهر بها وزير "الدفاع" الإسرائيلي في الحكومة الإئتلافية إسحق رابين، تواصلت التحركات الأميركية للحؤول دون ترجمة إنجازات الإنتفاضة الى رصيد سياسي واسع للشعب الفلسطيني، حتى بعد قيام المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشرة في الجزائر في تشرين الثاني/نوفمبر 1988 بإصدار "إعلان الإستقلال" الفلسطيني والحصول على اعترافات دولية واسعة بدولة فلسطين المعلنة. حيث تواصلت التدخلات الأميركية بعد هذا الإعلان، في محاولة للضغط على قيادة منظمة التحرير، بقنوات ووسائل شتى، لدفعها للقبول بالشروط الأميركية الثلاثة مقابل فتح حوار أميركي مع المنظمة. وهو ما تحقق أخيراً، بعد عدد من المحطات، في 14/12/1988، حين أعلن رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة الراحل ياسر عرفات في مؤتمر صحافي في جنيف صيغة قبول بهذه الشروط لقيت تجاوباً في واشنطن. وبدأ إثر ذلك الحوار الأميركي مع المنظمة من خلال السفير في تونس روبيرت بيليترو. لكن هذا الحوار لم يقد طوال أكثر من عام الى أية نتيجة ملموسة. واتخذت الإدارة الأميركية الجديدة التي تولت مقاليد الحكم في أوائل العام 1989، برئاسة جورج بوش الأب، قراراً في 20/6/1990 بوقف الحوار مع منظمة التحرير، متخذة ذريعة لها من محاولة إنزال زورق مطاط يحمل عدداً من مقاتلي جبهة التحرير الفلسطينية على شواطئ تل أبيب في 30/5/1990، وهو ما اعتبرته واشنطن خرقاً من قبل المنظمة لإلتزام أواخر العام 1988 بوقف "الإرهاب". ومن الممكن الإفتراض أن إدارة بوش الأب لم تجد أطراف الصراع، في أواسط العام 1990، ناضجة لتسوية يمكن أن تحققها هذه الإدارة وتسجلها في قائمة إنجازاتها. وتجمدت بعد ذلك المساعي السياسية الأميركية الى ما بعد التعاطي مع ذيول اجتياح الجيش العراقي للكويت في آب/أغسطس 1990، والحرب التي قادتها الولايات المتحدة في الشهرين الأولين من العام 1991 لإخراج هذه القوات من الكويت ولضرب القوة العسكرية العراقية، وهي القوة التي كانت قد تعاظمت بعد ثماني سنوات من الحرب مع إيران (1980- 1988). وكانت هذه الأزمة والحرب قد أحدثتا انقساماً عميقاً في مواقف الأطراف الرسمية العربية، حيث توزّع المسؤولون العرب بين مؤيدين للعراق ومعارضين يدعمون إخراج قواته من الكويت. وكان هذا الإضعاف في الوضع العربي، ومن ثم الضربة الموجهة للقوة العراقية، "نافذة فرص"، على حد تعبير الرئيس بوش الأب في خطابه أمام الكونغرس يوم 6/3/1991، أي بعد أيام قليلة على نهاية الحرب، من أجل تسوية شؤون المنطقة ومحاولة إنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي. خاصةً وأن الولايات المتحدة أمّنت وكثفت حضورها العسكري المباشر على نطاق واسع في المنطقة المشرقية وتحديداً في منطقة الخليج الإستراتيجية، ورفعت عن إسرائيل التهديد الذي كانت تل أبيب تعتقد أن العراق يشكله عليها، في حين وجدت منظمة التحرير نفسها، وهي التي اتخذت قيادتها موقفاً مؤيداً للعراق، في موقف ضعيف بعد ضرب العراق وإخراج قواته من الكويت، وبعد اتخاذ الدول الخليجية، وخاصة الكويت، إجراءات حجب للمساعدات المالية عن منظمة التحرير، وبعد خروج أو إخراج مئات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين العاملين في الكويت، وبعض العاملين أيضاً في دول خليجية أخرى. هذا في وقت كان فيه الحليف الدولي الكبير للفلسطينيين ولعدد من الأنظمة العربية، والمقصود الإتحاد السوفييتي، في حالة تحلل وغياب وزن، وعلى أبواب التفكك النهائي وفتح المجال أمام الولايات المتحدة لتصبح القوة العظمى الوحيدة في العالم، وفي منطقتنا. بعد إنجاز كل ذلك، اعتبرت الإدارة الأميركية أن الظروف نضجت لدفع الأطراف العربية، والطرف الفلسطيني خاصةً، للقبول بما لم تكن تقبل به قبل هذا التطور. وبعد أن قام الرئيس الأميركي بوش الأب بطرح مشروعه لحل الصراع العربي- الإسرائيلي أمام الكونغرس الأميركي، قام وزير خارجيته جيمس بيكر بجملة من الجولات المكوكية في المنطقة، انتهت بعقد مؤتمر في مدريد افتُتح يوم 30 تشرين الأول/أكتوبر من العام ذاته 1991، وإنبثقت عنه مفاوضات ثنائية بين كل طرف عربي وإسرائيل. وفُرض على منظمة التحرير أن توافق على تمثيل فلسطيني في إطار وفد أردني- فلسطيني مشترك وعبر ممثلين عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، من دون القدس الشرقية، وذلك استجابة من واشنطن لشروط إسحق شامير للمشاركة في المؤتمر. وكان واضحاً وحتى في كلام وزير الخارجية الأميركي آنذاك جيمس بيكر مع الوفود العربية التي دُعيت للمشاركة في المؤتمر ان الولايات المتحدة تعاملت مع كافة الأطراف العربية، مهما كان موقف كل منها أثناء الحرب على العراق، على أنها في المعسكر المهزوم، وأن المنتصر الوحيد في الحرب هو الولايات المتحدة، كما نُقل على لسان بيكر نفسه. وتم اعتبار منظمة التحرير طرفاً مهزوماً بشكل خاص. ونقل القيادي الفلسطيني الراحل ممدوح نوفل، في كتابه "الإنقلاب"، عن رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عرفات قوله، في الإجتماعات القيادية التي انعقدت في تونس قبل أيام من انعقاد مؤتمر مدريد: "إنهم (ويقصد الأميركيين) يريدونني أن أكون ذكر النحل الذي يلقّح مرة واحدة ثم يموت"، مضيفاً: "الأميركان يريدون شطب منظمة التحرير وخلق قيادة بديلة...". وتُرك الطرف الفلسطيني المفاوض بعد ذلك، وطوال زهاء العامين، في مواجهة تعنت الطرف الإسرائيلي المتواصل، طوال المفاوضات الثنائية التي انعقدت في واشنطن، دون الوصول الى أية نتيجة. وفي آب/أغسطس 1993، تفاجأ العديد من الفلسطينيين والعرب ودول العالم بإعلان التوصل الى إتفاق إثر مفاوضات سرية جرت في العاصمة النرويجية أوسلو بين ممثلين عن القيادة المقررة في منظمة التحرير الفلسطينية وأكاديميين إسرائيليين على صلة بمركز القرار الإسرائيلي، ثم موفدين منتدبين رسمياً من قبل الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي شكّلها حزب العمل بعد فوزه في إنتخابات الكنيست في أواسط العام 1992. منظمة التحرير ممثل، ولكن ليس وحيداً! وفي 13 أيلول/سبتمبر، تم التوقيع رسمياً في البيت الأبيض في واشنطن على ما أصبح معروفاً باسم "إتفاق أوسلو"، بعد أن جرى تبادل لـ"رسائل الإعتراف"، يومي 9 و10 أيلول/سبتمبر، بين رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عرفات ورئيس الحكومة الإسرائيلية الجديدة إسحق رابين. وبينما تضمنت الرسالة الفلسطينية الموجهة يوم 9/9 إعترافاً باسم م.ت.ف. بـ"حق دولة إسرائيل في الوجود بسلام وأمن"، اقتصرت رسالة رد اسحق رابين في اليوم التالي على إبلاغ الجانب الفلسطيني قرار حكومة إسرائيل القاضي بـ"الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني، وبدء المفاوضات مع م.ت.ف. ضمن إطار عملية السلام في الشرق الأوسط". وحتى يزيل أي التباس، أوضح إسحق رابين في مقابلة مع صحيفة "دافار"، نشرته في عددها الصادر يوم 29/9/1993، أي بعد أيام قليلة من التوقيع الرسمي على الإتفاق، بأنه قام قصداً بـ"الإعتراف بـ م.ت.ف. ممثلاً للشعب الفلسطيني، وليس الممثل الوحيد". وحتى يزيد الأمور وضوحاً أكد في المقابلة ذاتها أن "موقفنا يعارض إقامة دولة فلسطينية بيننا وبين الأردن"...وأضاف حول تصوره لـ"التسوية الدائمة" بأنه يراها "نوعاً من الإندماج بين دولتين، إسرائيل والأردن، وكياناً فلسطينياً، هو أقل من دولة". وهو رأي عاد وكرره رابين في خطابه أمام الكنيست بعد التوقيع على إتفاق أوسلو-2، أو إتفاق طابا، في أواخر أيلول/سبتمبر 1995، حيث تحدث عن كيان فلسطيني هو "أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة". وعملياً، فإن رابين، الذي كان مقرّباً، حين كان ضابطاً في الجيش الإسرائيلي ثم رئيساً لأركان الجيش الإسرائيلي، خاصة أثناء حرب العام 1967، من القيادي السابق في القوات الصهيونية يغال ألون، الذي أصبح نائباً لرئيس الحكومة ووزيراً للإستيعاب بين العامين 1967 و1969، طرح تصوره لـ"الحل النهائي" من خلال صيغة ترتكز الى حد كبير الى "خطة ألون" الشهيرة التي طُرحت لأول مرة في تموز/يوليو 1967 بعد فترة وجيزة من احتلال الضفة الغربية. و"خطة ألون" تبقي أجزاء واسعة من الضفة الغربية بيد إسرائيل في إطار الحل المقترح في حينه على سكان الضفة الغربية، ثم على الأردن، علماً بأن القدس الشرقية المحتلة في تلك الحرب جرى ضمها الى دولة إسرائيل في قرار رسمي تم اتخاذه بعد حرب 1967 بأيام قليلة. وما جرى بعد العام 1993 يُظهر كم كان "التنازل" الإسرائيلي في إتفاق أوسلو محسوباً ومضبوط النتائج، وكم كانت نوايا الإسرائيليين والأميركيين منصبة على تحقيق وتعزيز مصالحهم القريبة والبعيدة، وليس البحث عن حلول فعلية للصراع في المنطقة. لكن العنصر الذي لم يعطه الأميركيون والإسرائيليون الأهمية المستحقة هو مقدار استعداد الشعب الفلسطيني، في وطنه وفي أقطار اللجوء والإغتراب، للتصدي لأي تخلٍ عن حقوقه الأساسية، واستعداده لتحمل المزيد من المعاناة وحملات الإبادة والبطش متمسكاً بهدفه الكبير، ومهما تطلب من جهد وتضحيات، وهو إزالة الظلم الهائل الذي أُلحق به منذ العام 1948. وهو ظلم وقع عليه من خلال احتلال وطنه والحؤول دون ممارسة حقه في تقرير مصيره فيه، كما من خلال تشريد غالبية مواطنيه ابان حرب العام 1948 ومئات الآلاف الآخرين ابان حرب 1967، وبأشكال أقل إثارةً للضجيج، على امتداد سنوات تلك العقود الستة ونيف، التي مارست خلالها حكومات إسرائيل المتعاقبة كل أشكال التضييق والإضطهاد على من تبقى من الفلسطينيين على أرض وطنهم من أجل دفعهم للهجرة بحثاً عن سبل العيش في بلدان أخرى، في تنفيذ متدرج وهادئ، لا زال متواصلاً، للسياسة الإسرائيلية المعروفة بـ"الترانسفير". وهي سياسة تهدف الى إبقاء أغلبية يهودية كبيرة بين نهر الأردن والبحر والحؤول دون قيام أية صيغة استقلالية فلسطينية تعيد التذكير بجذور المشكلة والعدوان التاريخي على حقوق سكان البلد الأصليين وهويتهم وكرامتهم. كما إن الأميركيين والإسرائيليين ما كان بإمكانهم أن يضعوا في حسبانهم أن تهلهل الوضع العربي وضعفه ليسا قدراً أبدياً. فكل رهانهم وكل مساعيهم كانت قائمة على إبقاء هذا الوضع العربي في حالة ضعف دائم. لكن رهانات الأميركيين والإسرائيليين ليست، بالضرورة وحكماً، رهانات شعوب المنطقة العربية، التي أثبتت منذ مطلع العام 2011 أنها قادرة على النهوض من جديد، وعلى السعي لرسم مستقبلها بأيديها ولصالحها، وليس لصالح غيرها. ## هذه المادة هي صياغة موسعة لمادة تم نشر نص مكثف ومختصر عنها في ملحق "فلسطين" الشهري لصحيفة "السفير" اللبنانية. * كاتب ومفكر فلسطيني- رام الله. - dtal18.83@gmail.com تاريخ النشر: 2011/8/29
×
أي دور 'خارجي' في الثورات والإنتفاضات الشعبية العربية؟
بات الآن واضحاً أن الثورات والإنتفاضات الشعبية التي شهدها عدد من البلدان العربية منذ أواخر العام 2010، وأدت، خلال أقل من شهرين، الى الإطاحة بحاكمَي نظامين أمسكا بزمام السلطة في بلديهما بين عقدين وثلاثة عقود، شكّلت تطوراً نوعياً واستثنائياً في أوضاع المنطقة العربية، وربما على نطاق أوسع. وكما يحدث مع العديد من الأحداث الإستثنائية غير المتوقعة، تنتشر في منطقتنا، كما في مناطق أخرى في حالات شبيهة، فرضيات بوجود أيادٍ خفية وراء هذه الأحداث. وغالباً ما تتجه أصابع الإتهام نحو الولايات المتحدة، وأحياناً حتى نحو إسرائيل، أو نحو هذه القوة الأوروبية أو الإقليمية أو تلك. وقبل زهاء ستة عقود أو أكثر من الزمن، كان أصبع الإتهام الأول في أي حدث أو تطور كبير أو مأساوي في مشرقنا العربي يتجه فوراً نحو بريطانيا، الدولة التي كانت عظمى قبل الحرب العالمية الثانية، وكانت تبسط نفوذها وشبكة سيطرتها على معظم بلدان المنطقة، من مصر الى فلسطين والأردن والعراق وبلدان الخليج، وحتى إيران، والى حد ما تركيا (لنستذكر حلف بغداد الشهير في الخمسينيات الماضية). هذا، بالإضافة الى سيطرة هذه القوة العظمى السابقة، آنذاك، على مناطق واسعة أخرى في العالم، يبرز بينها ذلك البلد- القارة، الهند، الذي كانت تعتبره "درة التاج البريطاني". وهو البلد الذي من أجل ضمان طرق المواصلات إليه، من بين أسباب أخرى، سيطرت بريطانيا على مصر، وعلى ممر قناة السويس الهام آنذاك، في أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن يصبح نفط إيران، ثم العراق والخليج، سبباً إضافياً آخر لتعزيز هذا الوجود البريطاني في مجمل المشرق العربي. دون أن نغفل أهمية المشروع الإستيطاني الصهيوني في فلسطين في إطار هذه الإستراتيجية البريطانية للهيمنة آنذاك. ومعروف أن فلسطين وقعت تحت السيطرة البريطانية في أواخر العام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى، تقريباً في نفس الفترة التي كان فيها وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر بلفور، قد أصدر، باسم حكومته، وعده الشهير بتسهيل إقامة "الوطن القومي" اليهودي في فلسطين. كما سيطرت بريطانيا في تلك الحقبة على العراق، الواعد آنذاك باحتمالات توفر الثروة النفطية، بحكم قربه من مناطق إيران الشرقية، المنتجة للنفط منذ وقت أبكر. كما سيطرت على مناطق أخرى في المشرق العربي بالتنسيق والتقاسم مع فرنسا، عملاً باتفاقية سايكس- بيكو السرية الشهيرة المعقودة بين البلدين الإستعماريين أثناء تلك الحرب. تونس ... تطورات سريعة أدهشت وفاجأت حتى فرنسا والولايات المتحدة لكن، وفق كل المعلومات والمصادر المتوفرة ومسارات الأحداث على الأرض، جاء اندلاع وتطور ثورة تونس، التي افتتحت سلسلة الثورات والإنتفاضات في منطقتنا منذ أواخر العام الماضي 2010، كمفاجأة كاملة للعالم كله، بما في ذلك للقوتين الخارجيتين الرئيسيتين المؤثرتين بشكل خاص في هذا البلد، فرنسا والولايات المتحدة، وكذلك حتى للشعب التونسي وللمشاركين في الثورة أنفسهم، على الأقل في الأيام الأولى للثورة. فلا أحد توقع في تونس نفسها، قبل أو بعد إضرام المواطن محمد البوعزيزي النار بنفسه، أن تذهب الأمور الى حد تحوّل الحراك اللاحق الى ثورة شعبية عارمة، والى الإطاحة، يوم 14/1/2011، أي خلال أقل من شهر على تضحية البوعزيزي بنفسه، بنظام بوليسي استبدادي كان يمسك بالوضع التونسي بيد من حديد منذ وصول رئيسه زين العابدين بن علي الى السلطة في العام 1987، وحتى قبل ذلك عندما تم تعيينه وزيراً للداخلية ثم رئيساً للحكومة (وزيراً أول، وفق التعبير المستخدم في البلد) في أواخر عهد الرئيس التونسي الأول، الحبيب بورقيبة. فالثورة الشعبية في تونس تطورت بشكل متدرج، والى حد كبير تلقائي، أي بدون وجود قيادة موحدة موجِّهة لها من قبل طرف أو مجموعة مؤتلفة من الأطراف داخل تونس نفسها، واتسعت وكبُرت بشكل متسارع ككرة الثلج الى أن أصبحت انتفاضة شعبية هائلة لم يعد بإمكان النظام وأجهزته الأمنية وضع حدٍ لها بالقمع وسفك الدماء. ويصعب، في هذا الصدد، نسيان حديث وزيرة الخارجية الفرنسية آنذاك، ميشيل آليو- ماري، أمام البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية)، يوم 11/1/2011، أي قبل ثلاثة أيام من رحيل بن علي عن تونس، عن إمكانية تسوية الوضع المضطرب في تونس من خلال "حسن التدبير، المعترف به في العالم كله، لقوانا الأمنية"، حسب تعبير الوزيرة الفرنسية. والوزيرة لم تكن تفعل أكثر من التأكيد على سياسة حكومتها على الأرض، حيث كان قد تم إرسال "أربع شحنات من أدوات حفظ الأمن (الملابس الخاصة بقوى الأمن، وتجهيزات الحماية لها، والقنابل المسيلة للدموع) الى تونس، بموافقة من الحكومة الفرنسية، في كانون الأول/ديسمبر 2010 وكانون الثاني/يناير 2011"، وفق المصادر الإعلامية الفرنسية ("لوموند ديبلوماتيك"، عدد آذار/مارس 2011). وأشار المصدر ذاته الى أن هذه المساعدات الأمنية تدخل في إطار سياسة فرنسية قديمة للتعاون البوليسي مع العديد من دول العالم. حيث تشكل صادرات فرنسا في هذا المجال، أي أدوات ضبط الأمن الداخلي، مصدراً مهما ً من العائدات بالنسبة للصناعات المرتبطة بوزارة الداخلية الفرنسية. ولو نجح نظام بن علي في قمع الثورة الشعبية بفضل المساعدة الفرنسية الموعودة، لكانت آليو- ماري بقيت في موقعها. وعندما فشل القمع، خلافاً لكل التوقعات في ذلك الحين، ورحل بن علي ونظامه، كان على آليو- ماري أن تدفع ثمن كلامها، وأن تترك موقعها في الحكومة. وقد أقرّ وزير الخارجية الفرنسي الجديد الذي حلّ محلها، ألان جوبِّيه، بخطأ التقدير هذا، وقام بما يشبه النقد الذاتي في كلمة ألقاها في ندوة عقدها "معهد العالم العربي" في باريس تناولت "الربيع العربي"، حيث قال في كلمة له في ختام الندوة يوم 16/4/2011: "لا بد من الإقرار، بالتأكيد، أنه، بالنسبة لنا جميعاً، كان هذا الربيع (العربي) مفاجأة. فقد اعتقدنا، لفترة طويلة، ان هذه الأنظمة السلطوية كانت القلاع الوحيدة ضد التطرف في العالم العربي. خلال فترة طويلة، رفعنا حجة التهديد الإسلاموي لتبرير شيء من التساهل مع هذه الحكومات التي كانت تدوس الحريات وتكبح تطور بلدانها". إذاً، كان انفجار الثورة الشعبية التونسية وتصاعدها السريع حتى رحيل رأس النظام أمراً مفاجئاً وغير متوقع في البداية وحتى ما قبل الفصل الأخير، سواء بالنسبة للمعارضين والمنتفضين التوانسة في البلد نفسه، على الأقل في الأيام الأولى من الإنتفاض الشعبي، أو بالنسبة للقوى الخارجية التي لها تأثير ودور في البلد وعلاقات قديمة معه، وخاصة فرنسا، الدولة المستعمِرة السابقة. والأمر نفسه ينطبق على الولايات المتحدة، الدولة الكبرى التي تزايد نفوذها في عموم المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة، وفي تونس بشكل ملحوظ بعد وصول زين العابدين بن علي الى رأس هرم السلطة في العام 1987. فكما فوجئت فرنسا بالثورة الشعبية في تونس، كذلك فوجئت إدارة وأجهزة الولايات المتحدة، البلد الأبعد من فرنسا جغرافياً عن تونس، ولكن ذي العلاقات القوية مع نظام بن علي، كما ذكرنا. وهذه العلاقة الخاصة والإستثنائية بين نظام بن علي والولايات المتحدة أكدها علناً، وبكثير من الوضوح، سفير سابق لفرنسا في تونس، كان يشغل هذا الموقع أبان انقلاب بن علي عام 1987 وإزاحته الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بحجة اعتلال صحته وتقدم سنّه. وهذا السفير هو إريك رولو، الذي عمل لفترة طويلة في مجال الصحافة والكتابة، خاصة عن قضايا المنطقة العربية والصراع العربي- الإسرائيلي، قبل أن يعيّنه الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران، في أواسط الثمانينيات الماضية، سفيراً في تونس، ثم، بعد بضع سنوات، في تركيا. فقد كتب رولو مقالة شديدة الوضوح تشير الى هذه العلاقة الوثيقة بين الأميركيين وأجهزتهم وزين العابدين بن علي، نشرتها شهرية "لوموند ديبلوماتيك" الشهيرة على الصفحة الأولى من عدد شهر شباط/فبراير 2011 تحت عنوان "ذكريات دبلوماسي". وبالرغم من هذا النفوذ والحضور الأميركي في البلد، فقد كان الموقف الأميركي، في الأيام الأولى للثورة التونسية، مرتبكاً ومتردداً وغير واضح، لا بل متخوفاً من التغيير، الى أن أصبح جلياً أن الحركة الشعبية في تونس لم تعد قابلة للإيقاف، فتحوّل موقف الإدارة الأميركية باتجاه دعوة زين العابدين بن علي، في الأيام الأخيرة من حكمه، الى الرحيل، تفادياً لتفاقم الأمور. ويشار في صدد الوضع التونسي، الى أن كتاباً كان قد صدر في فرنسا في الشهر العاشر من العام 2009 تحت عنوان "عاهلة قرطاج"، من تأليف الكاتبين الفرنسيين كاترين غراسييه ونيكولا بو. وحمل الكتاب على غلافه صورة ليلى طرابلسي، زوجة بن علي، وتناول دورها في السيطرة على مفاصل الحكم والنفوذ في تونس، ومساعدتها لأفراد عائلتها وأقربائها ومعاونيها لوضع اليد على مرافق الإقتصاد والأعمال ومصادر الثروة في البلد. وكان هذا الكتاب، بالطبع، ممنوعاً من دخول تونس. لكن التونسيين المقيمين خارج تونس، وهم كثر، اطلعوا عليه. أما المواطنون داخل تونس، فكانت هناك وسائل أخرى لإيصال الكتاب، أو فحواه، لهم. وبالرغم من أن قضايا الفساد المشار إليها في الكتاب كانت معروفة الى حد ما داخل البلد، فقد زادت المعلومات الموثقة في الكتاب من مفاقمة النظرة السلبية لدى القطاعات المثقفة والشابة في البلد تجاه النظام والعائلة الحاكمة، خاصة مع تدهور الأوضاع المعيشية لقطاعات متزايدة من السكان، والشبان منهم بشكل خاص، في السنوات الأخيرة، سنوات الأزمة الإقتصادية العالمية، وانعكاساتها السلبية على مختلف بلدان العالم. وقد أجرت إحدى الفضائيات العربية، بعد رحيل الرئيس المخلوع من تونس بأيام قليلة، مقابلة مع كاترين غراسييه، إحدى مؤلفي الكتاب، وسألتها، في سياق المقابلة، إذا ما كانت تتوقع عند تأليف الكتاب أن تصل الأمور في تونس سريعاً الى هذه النتيجة، فأجابت بدون تردد: لا، إطلاقاً. وهذه الصورة السلبية حول فساد العائلة الحاكمة في تونس أكدتها، بعد صدور الكتاب، تلك الرسائل الدبلوماسية الأميركية السرية التي نشرها موقع "ويكيليكس" على شبكة الإنترنت ووزعها مؤسسه الأسترالي جوليان أسانج، وبُدئ بنشرها علناً في أواخر العام 2010. ومن الممكن القول انه كان لتسريبات "ويكيليكس" دور ما في تسويد صورة النظام في تونس، وبالتالي هي ساعدت في التحريض على الإنتفاض عليه، وهو ما ينطبق أيضاً على ما جرى لاحقاً في مصر وبلدان عربية أخرى تناولتها الرسائل الدبلوماسية الأميركية السرية المسرّبة. ولكن من المؤكد انه إذا ما كان لهذه التسريبات أي دور في دفع الأمور نحو الإنفجار، فهو، بالتأكيد، دور ثانوي وغير رئيسي. وهناك، طبعاً، تساؤلات في منطقتنا وفي مناطق عديدة أخرى من العالم شملتها تسريبات "ويكيليكس": هل كانت هذه التسريبات مؤامرة مقصودة من جهة معينة، من الأميركيين أنفسهم مثلاً، لتحقيق أغراض معينة؟ ليس هناك ما يدفع باتجاه التسليم بصحة هذه النظرية التآمرية، حتى إشعار آخر. حيث ان هذه التسريبات تسببت بالكثير من الإحراجات للإدارة الأميركية، وليس في منطقتنا فقط، وإنما في أنحاء العالم، بما في ذلك مع زعماء بلدان حليفة، مثل ألمانيا. حيث تناولت إحدى الرسائل الدبلوماسية الأميركية السرية من برلين، على سبيل المثال لا الحصر، المستشارة أنغيلا ميركِل بأوصاف غير إيجابية، وكذلك الأمر بالنسبة لرسائل دبلوماسية صدرت من السفارة الأميركية في باريس وتناولت الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بتوصيفات ليست إيجابية كذلك. وكلا الزعيمين الأوروبيين من الحلفاء المقربين جداً للإدارتين الأميركيتين، السابقة كما الحالية. ولنتذكر أن تسريبات أخرى من "ويكيليكس" نفسها سبقت تسريبات مراسلات وزارة الخارجية الأميركية وممثلياتها في أنحاء العالم. وهذه التسريبات السابقة تناولت التفاصيل المتعلقة بحربي أميركا في العراق وأفغانستان. وكانت مصدر إزعاج أكبر للمسؤولين الأميركيين لعلاقتها بحربين ما زالت تفاعلاتهما وأحداثهما متواصلة، مما يؤثر بالتالي على مجمل السياسات والسلوكيات الأميركية الميدانية في البلدين وفي عموم المنطقة العربية – الإسلامية، كما وداخل الولايات المتحدة وبلدان حلف شمال الأطلسي الأخرى المشاركة في الحربين. ورغم السابقة التونسية، كان زخم الحراك الشعبي في مصر مفاجأة لواشنطن ونظرياً، كان من المفترض أن يتم التعاطي بطريقة مختلفة مع انفجار الوضع الشعبي في مصر، بعد بدء التحركات الشعبية الواسعة يوم 25/1/2011، اليوم الخاص بالشرطة في مصر. وذلك بعد أن بات واضحاً لكل متابع أن مناخ الثورة التونسية قد أثّر بقوة، من خلال وسائل الإعلام المرئية ووسائل الإتصال العصرية، على مناطق وبلدان عربية أخرى، بدءً بمصر، البلد العربي الأكبر، وحيث معدل دخل الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي أدنى منه بكثير من معدل دخل الفرد في تونس، وحيث الوضع المعيشي لغالبية المواطنين أسوأ والفساد أكثر وضوحاً. ولكن المفاجأة لم تكن في بدء التظاهرات في مصر. فمصر كانت تشهد حراكاً شعبياً شبه متواصل منذ عدة أعوام، وخاصة منذ العام 2004، عندما تشكلت حكومة عملت على تعميق تطبيقات "الليبرالية الجديدة" في البلد، وهي التطبيقات التي زادت فقراء البلد فقراً وهددت قطاعات متزايدة من الفئات المتوسطة بالوقوع في مصاف الفقر، وعندما بدأت حركات الإعتراض الواسعة على احتمالات "التوريث"، أي الإعداد لترشيح جمال مبارك لتولي الرئاسة بعد والده. ثم تلاحقت بعد ذلك جملة من التحركات ذات الطابع السياسي أو المطلبي والإعتراضي على تدهور الأوضاع المعيشية لأعداد متزايدة من السكان. بل جاءت المفاجأة بالزخم الذي اكتسبته هذه التظاهرات بسرعة هائلة نسبياً، بحيث أدت الى إسقاط رأس النظام في البلد في مهلة أقل من المهلة التي احتاجتها الثورة التونسية، بالرغم من الحجم الجغرافي الأكبر لمصر، وتعداد سكانها الذي يتجاوز السبعة أضعاف حجم سكان تونس. وشملت المفاجأة حتى أولئك الشبان المبادرين للدعوة الى تحرك 25/1 أنفسهم، في القاهرة ومدن مصر الأخرى، حيث لم يتوقعوا حجم المشاركة الواسع، وفق تصريحاتهم العلنية اللاحقة، وحجم التصاعد المتزايد في الأيام اللاحقة لهذه المشاركة الشعبية، وخاصة منذ يوم 28/1، وكذلك الجاهزية الشبابية، والشعبية عموماً، لتحمُّل كلفة مواجهة قوات الأمن و"البلطجية" في البلد، الى أن تمت الإطاحة برأس النظام يوم 11/2. صحيفة "ذي إنديبندنت" البريطانية كتبت مقالاً للمعلِّقة كاترينا ستيوارت في عدد يوم 29/1/2011 تحت عنوان بليغ: "قلة توقعت السرعة التي ازداد بها زخم الإحتجاجات". وكانت، بالطبع، تتحدث آنذاك عما يجري في مصر، وعما جرى تحديداً في يوم 28/1. وكان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق والمبعوث الخاص للجنة الرباعية الدولية الى العملية التفاوضية الفلسطينية- الإسرائيلية، توني بلير، قد قال، في حديث أجرته شبكة "سي إن إن" التلفزيونية الأميركية معه في اليوم الأول من شهر شباط/فبراير الماضي، ونقلته صحيفة "ذي غارديان" البريطانية في عدد يوم 2/2/2011، في وصف الرئيس المصري حسني مبارك بأنه "بالغ الشجاعة، وقوة خير"، مشيداً، بشكل خاص، بدور مبارك في مساعدته في عملية التفاوض الفلسطينية- الإسرائيلية (ومن الواضح الآن أين وصلت هذه العملية!). أما عضو مجلس الشيوخ الأميركي والمرشح الرئاسي الجمهوري المنافس للرئيس أوباما في انتخابات العام 2008، جون ماك كين، فقد اعتبر الثورات العربية، في مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" الأميركية، يوم 2/2/2011، "فيروساً" يهدد إسرائيل، قائلاً: "هذه الثورات تنتشر في الشرق الأوسط مثل الفيروس...وهذه ربما أخطر مرحلة في التاريخ، في تاريخ انخراطنا كله في الشرق الأوسط، على الأقل خلال الأزمنة الحديثة...إسرائيل في خطر أن تصبح محاطة بدول هي ضد مجرد وجود إسرائيل، دولٍ محكومة بمنظمات راديكالية"، حسب تعبيره. وكان جون ماك كين قد التقى بالرئيس الأميركي باراك أوباما، بدعوة من الأخير، في اليوم ذاته، للتشاور حول الموقف من مصر تحديداً. أما رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأميركي جون بينَر، فقد قال بشأن الثورة في مصر: "أعتقد أن ما جرى قد فاجأ الجميع، ولذلك ستجري عملية حقيقية لإعادة تقييم ذلك". وأضاف: "أعتقد أنني فوجئت. أعتقد أن (البيت الأبيض) قد فوجئ... إنه وضع معقد جداً". وهذا الكلام لرئيس الأغلبية نقله موقع صحيفة "واشنطن بوست" على شبكة الإنترنت بتاريخ 13/2/2011، أي بعد تنحي مبارك. من جانبه، أقرّ جيمس كلابِر، مدير المخابرات القومية الأميركية والمسؤول الأول عن التنسيق بين كافة أجهزة الإستخبارات في الولايات المتحدة، في شهادة أمام مجلس النواب الأميركي يوم 10/2/2011، بأنه كانت هناك مئات التقارير خلال العام السابق حول التوترات وعدم الإستقرار في بلدان شمال إفريقيا، ولكن "العوامل المفجّرة المحددة لا يمكن معرفتها وتوقعها دائماً". وأضاف انه "حتى بن علي عندما ذهب الى مكتبه في ذلك الصباح لم يكن يعلم أنه سيكون على الطائرة لمغادرة تونس في المساء". وأضاف أنه اتخذ قراراً، مع رئيس وكاله المخابرات المركزية ليون بانيتا (الذي أصبح في ما بعد وزيراً للدفاع)، بتشكيل فريق من 35 عضواً لمتابعة أعمق للمشاعر الشعبية وقوة المعارضة ودور شبكة الإنترنت في هذه البلدان، على حد تعبيره، وفق ما نقله عنه موقع إحدى محطات التلفزيون الأميركية الرئيسية على الشبكة تحت عنوان: "كلابِر عن مصر وتونس: نحن لسنا مستبصرين". وهو استخدم كلمة "كليرفويانت"، بالإنكليزية، وهي بالأصل كلمة فرنسية، وتعني بتلك اللغة "بُعد النظر". *** وفي كل الأحوال، وكما سبق وذكرنا، لا يمكن تفسير الثورة التونسية أو الثورة المصرية فقط من خلال التسريبات الإعلامية حول الفساد الواسع القائم في قمة هرم النظامين المنهارين. فهناك أسباب عديدة أخرى وتراكمات طويلة في البلدين، كانت مرئية وواضحة جداً في مصر، خاصة بعد بدء تطبيقات "الليبرالية الجديدة" منذ مطلع التسعينيات الماضية، ومن ثمّ تصاعد الحراك الشعبي الإحتجاجي، في السنوات السبع الأخيرة خاصة، كما سبق وذكرنا. وجاءت الأزمة الإقتصادية العالمية التي انفجرت علناً في الولايات المتحدة في الثلث الأخير من العام 2008، بانعكاساتها شديدة الوقع على غالبية بلدان العالم، بما في ذلك على تونس ومصر وبلدان عربية وغير عربية أخرى، لتوصل هذه التراكمات الى مستوى "القشة" الشهيرة التي "قصمت ظهر البعير". الإدارة الأميركية تستدرك، وتسعى، مع دول أوروبية، الى التأثير اللاحق بالطبع، وكما هي عادة إدارات الولايات المتحدة في مناطق أخرى من العالم وفي مراحل مختلفة سابقة، فهي تتمسك بـ"حلفائها" في "العالم الثالث" الى أن يصبح وضعهم الداخلي صعباً على المستوى الشعبي، الى حد لا يمكن تغطيته وتمريره أمام الرأي العام العالمي، وحتى أمام الرأي العام الأميركي نفسه، فتضطر، في ذلك الحال، وبالسياسة البراغماتية المعهودة لديها، ليس فقط للتخلي عن هؤلاء "الحلفاء"، وإنما تذهب، حين يتلكأون، الى حد مطالبتهم علناً بمغادرة السلطة، والبحث عن ملجأ لهم، حتى في الولايات المتحدة إذا لزم الأمر، إذا كانوا يرغبون بذلك ولا يضرّ ذلك بالمصالح الأميركية اللاحقة في بلدانهم. وهذا ما حدث في الفيليبين مع فرديناند ماركوس في العام 1986، بعد 21 عاماً أمضاها في سدة الرئاسة في هذا البلد الآسيوي الكبير نسبياً (أكثر من 90 مليون نسمة حالياً)، حيث سمح له الرئيس الأميركي آنذاك، رونالد ريغن، باللجوء الى جزر هاواي الأميركية. وهذا ما حدث بعد ذلك في العام 1998 في إندونيسيا، البلد الأكبر حجماً والرابع في العالم من حيث عدد السكان (حوالي 240 مليون نسمة حالياً)، مع الجنرال سوهارتو، بعد أن أمضى 31 عاماً في الحكم، إثر انقلاب، في أواسط الستينيات الماضية، على مؤسس إندونيسيا الحديثة ورئيسها الأول أحمد سوكارنو، دعمته وكالة المخابرات المركزية الأميركية، كما بات معروفاً ومعلناً، بهدف القضاء على نفوذ الشيوعيين في إندونيسيا، حيث كانوا قوة رئيسية ومؤثرة في هذا البلد الكبير سكانياً، والمهم جغرافياً لقربه من ساحة الحرب المشتعلة في فييتنام. وقد ترافق هذا الإنقلاب، بالفعل، مع تصفية جسدية لمئات الآلاف من الشيوعيين أو "المتهمين" بالتعاطف معهم. وكانت فييتنام تشهد، في تلك الفترة تحديداً، تصعيداً واسعاً لحرب عنيفة متزايدة الحدة في جنوبه، المسيطَر عليه من قبل الأميركيين و"حلفائهم" المحليين، وضد شماله المستقل، وهي حرب خاضتها إدارة ليندون جونسون بثقل عسكري، تصاعد بشكل متسارع في النصف الثاني من الستينيات، في مناخ "الحرب الباردة" والصراع الغربي المحتدم في ذلك الحين مع الإتحاد السوفييتي و"البلدان الشيوعية" الأخرى، مثل الصين، التي كان الحزب الشيوعي في إندونيسيا قريباً من نهج الحزب الشيوعي الحاكم فيها. وكان ذلك قبل أن تحدث الإنعطافة الأميركية في مطلع السبعينيات، ابان إدارة نيكسون- كيسنجر، بالإنفتاح على الصين الشعبية، في مناورة للإستفادة من الخلاف الصيني- السوفييتي الذي كان في أوجه في ذلك الحين. هذا، مع العلم بأن الزعيم المخلوع سوهارتو لم يغادر إندونيسيا بعد الإطاحة به، وبقي فيها حتى وفاته في السنوات الأولى من القرن الجديد. *** ولكن بعد ما جرى في تونس، ومن ثم في مصر، وحتى قبل انهيار النظامين السابقين فيهما، بدأت واشنطن وعواصم أوروبا الأخرى تدرك أن شيئاً كبيراً آخذٌ بالتفاعل في عموم المنطقة العربية، وأنه من غير المستبعد أن تشهد دول المنطقة ظاهرة "الدومينو"، أي إنجراف بلدانها، الواحد تلو الآخر، في عملية تغيير شبيهة، متأثرة بالنموذجين التونسي والمصري. وإذا كانت تونس بلداً صغيراً نسبياً (حوالي 11 مليون نسمة) محدود الموارد الطبيعية، خاصة في مجال مصادر الطاقة، ولا يحتل موقعاً مؤثراً جداً في إطار استراتيجية الولايات المتحدة في عموم المنطقة، فالأمر يختلف كثيراً بالنسبة لمصر، البلد الكبير (أكثر من 80 مليون نسمة) والمركزي والمؤثر على عموم المنطقة، والمرتبط باتفاقات ومعاهدات وصيغ من التعاون متعدد الأشكال مع الولايات المتحدة، ومع إسرائيل، خاصة بعد إتفاقيات كامب ديفيد في العام 1978 والمعاهدة المصرية- الإسرائيلية في آذار/مارس من العام التالي. هذا، الى جانب كونه بلداً أقرب الى مركزي الإهتمام الرئيسيين لواشنطن في المنطقة، منابع النفط الخليجية وممراته، والدولة الإسرائيلية. فلم تكد الحركة الشعبية المصرية تستعرض قوتها في ساحات القاهرة والمدن المصرية الأخرى، خاصة يومي 25/1 و28/1، حتى سارع أحد المقربين جداً من البيت الأبيض ومركز القرار في واشنطن، عضو مجلس الشيوخ ورئيس لجنة العلاقات الخارجية فيه والمرشح السابق للرئاسة، جون كيري، الى نشر مقال في عدد يوم 31/1/2011 من صحيفة "نيويورك تايمز" تحت عنوان ملفتٍ للإنتباه: "لنتحالف مع مصر القادمة". وهي دعوة واضحة للتخلي عن رأس النظام المصري، وبدء فتح الخطوط مع الحركة الواسعة المناهضة لحكمه في مصر، أو مع الأطراف الأخرى في النظام، وتلك ذات الحضور الشعبي في مصر. فقد أنهى جون كيري مقالته بالكلمات التالية: "لثلاثة عقود، اتبعت الولايات المتحدة سياسة دعم لمبارك، والآن علينا أن ننظر لما بعد عهد مبارك ونبلور سياسة مصرية جديدة". وهي دعوة لم تلبث أن تلتها دعوات على مستوى أعلى وبصيغ لا تقل وضوحاً، تطالب حتى بتنحي مبارك عن الحكم. ووصلت الدعوات الى مستوى الرئيس باراك أوباما نفسه، الذي بدأت إدارته بالإتصال مع الأطراف المختلفة في الإدارة المصرية، لدفع الأمور باتجاه مخرجٍ لا يزيد الأمور تعقيداً، ولا يدفع حركة الشارع في اتجاهات أكثر تجذراً. وكانت أوراق "ويكيليكس" قد نقلت تساؤلات دبلوماسيي الإدارة الأميركية في القاهرة، قبل التطورات العاصفة الأخيرة في مصر، حول احتمالات تطور الوضع في البلد بعد وصول حسني مبارك الى سن متقدم، حيث كانت إحدى رسائل سفيرة واشنطن في القاهرة، مارغريت سكوبي، الموجهة الى وزارة الخارجية الأميركية في أيار/مايو 2009، قد توقعت أن يبقى رئيساً مدى الحياة. وكان ذلك قبل أقل من عامين على اضطراره للتنحي عن الحكم. أما في إسرائيل، الحليف الرئيسي لواشنطن في المنطقة، فبعد التطمينات الذاتية الأولية لبعض السياسيين هناك، والمؤكِدة لسيطرة نظام مبارك على الوضع واستبعاد تكرار التجربة التونسية في مصر، بدأت تسريبات وإشارات واضحة تفيد بحجم القلق الذي ينتاب الأوساط الإسرائيلية النافذة من عواقب رحيل نظام مبارك وخروج المارد الشعبي المصري من قمقمه. فقد نقلت محطة "سي إن إن" الإخبارية الأميركية يوم 29/1/2011 عن الوزير الإسرائيلي السابق بنيامين بن إليعيزر، وهو من حزب العمل، ومن أصل عراقي، وكان على اتصال مستمر مع الرئيس المصري حسني مبارك خلال فترة الإنتفاضة الشعبية في مصر، قوله للتلفزيون الإسرائيلي ان مبارك أكد له في اتصال هاتفي أن القاهرة ليست "لا بيروت ولا تونس"، وأن "السلطات المصرية تعرف ما يجري وأنها جهّزت الجيش مسبقاً". وفي حديث لاحق يوم 3/2/2011 مع إذاعة الجيش الإسرائيلي، قال بن إليعيزر عن مبارك: "انه وقف الى جانبنا طوال 30 عاماً، كان قائداً قوياً، وحافظ بكبرياء على التزامات السادات وواصل السير على دربه". وأضاف: "هناك شيء واضح، وهو انه، من وجهة نظرنا، هذه خسارة هائلة". وكان بن إليعيزر يعقّب على أحاديث مبارك الأولى عن إمكانية مغادرته للسلطة في وقت لاحق من العام 2011، حيث كان من المفترض أن تجري الإنتخابات الرئاسية. وبعد أن تنحى مبارك فعلاً، يوم 11/2/2011، خرج بعض المعلّقين الإسرائيليين بكتابات وتصريحات كانت تدخل أيضاً في مجال طمأنة الذات، لتؤكد على أن شبان وشابات ميدان التحرير في القاهرة وميادين وشوارع المدن المصرية الأخرى ركّزوا على مطالب تتعلق بالوضع الداخلي المصري وبالحرية والديمقراطية، ولم يرفعوا شعارات مناهضة لإسرائيل والولايات المتحدة. وهي طمأنة ذاتية لم تعمّر طويلاً، بعد أن بدأت تظاهرات التضامن مع الشعب الفلسطيني في القاهرة ومدن مصرية أخرى ترفع أعلام فلسطين، وتطالب بإنهاء وجود السفارة الإسرائيلية من القاهرة. التعامل "الخارجي" اللاحق على الإطاحة بنظامي تونس ومصر أما الدول الأوروبية، التي تأخرت أيضاً في اتخاذ مواقف حاسمة لصالح مطالب المنتفضين المصريين، ومعظمها كان له مصالح ويقيم علاقات قوية مع نظام مبارك، فقد وجدت في بدء الحركة الإنتفاضية في ليبيا، بعد أيام قليلة من تنحي حسني مبارك في مصر، وفي ردة فعل العقيد معمر القذافي العنيفة والدموية على هذه الحركة، فرصتها للتعويض عن تلكؤها في استيعاب أبعاد ومآلات الإنتفاضات الشعبية في تونس ومصر. خاصة وأن العقيد القذافي، بالرغم من كونه قد قدّم تنازلات كبيرة للولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية بعد اجتياح العراق في الشهر الثالث من العام 2003، تحسباً من التعرض للمصير ذاته في مناخات إدارة جورج بوش الإبن و"محافظيه الجدد" الهجومية في المنطقة، يعدّ خصماً سهلاً بالنسبة لبلدان الغرب بسبب سياساته السابقة في المنطقة وخارجها، واتهامه في الماضي بدعم المنظمات والعمليات "الإرهابية"، بما في ذلك في أوروبا، ومواقفه المتقلبة باستمرار في العديد من القضايا. ولم تكن مفاجأة كبيرة، بالتالي، أن يكون الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، المعروف بنزعته اليمينية وقربه من مدرسة "المحافظين الجدد" الأميركيين، أول رئيس غربي يستقبل وفداً من المعارضة الجديدة للنظام الليبي في قصر الإيليزيه، ويذهب الى حد المبادرة بالإعتراف الرسمي، يوم 10/3/2011، بالمجلس الوطني الإنتقالي الذي شكّلته هذه المعارضة في مدينة بنغازي. وهو اعتراف سبق كافة الدول الأخرى، حتى العربية منها (كانت قطر أول دولة عربية تعترف بالمجلس، وكان ذلك يوم 28/3). فهكذا، فيما كانت الثورة الشعبية التونسية مفاجأة كاملة للعالم الخارجي، وكذلك النجاح السريع للثورة الشعبية المصرية في الإطاحة برأس النظام، أصبح واضحاً بعد ذلك للعالم كله أن هناك ريحاً واسعة تهب على المنطقة العربية، وليس فقط على تونس ومصر، وهي ظاهرة أطلقت عليها بعض وسائل الإعلام الغربية وبعض المسؤولين هناك تعبير "الربيع العربي"، كما أوردنا، بحيث بات متوقعاً أن تمتد لتشمل بلداناً عربية أخرى. وهو سرعان ما حدث مع ليبيا منذ أواسط شباط/فبراير، كما رأينا، ثم مع اليمن والبحرين وسوريا، وكذلك، بأشكال ودرجات متفاوتة وسقف مطالب مختلف بعض الشيء من بلد لآخر، مع كل من عُمان والجزائر والمغرب والأردن، وحتى العراق. وبدأت التشبيهات ترد في تقارير صحافية أو كتابات لمؤرخين مع ما حدث في أوروبا الشرقية والإتحاد السوفييتي بين العامين 1989 و1991، وحتى مع الثورات القومية التي شهدها عدد من بلدان أوروبا في أواسط القرن التاسع عشر، وتحديداً في العام 1848. وذلك بعد أن كان أحد المؤرخين الفرنسيين قد شبّه الثورة الشعبية التونسية في مراحلها الأولى، وقبل تفجر الثورات العربية الأخرى، بالثورة الفرنسية الكبرى التي انفجرت في أواسط العام 1789، أي قبل تلك الثورات القومية الأوروبية بأكثر من نصف قرن. وجاءت ردود الفعل على المستوى الشعبي في أنحاء العالم مرحبّة ومتعاطفة على نطاق واسع، وأحياناً الى حد الإنبهار بهذا النمط الجديد من التحرك الشعبي الجارف الذي قادته أفواج الشبان في بداياته، ليتحول بعد ذلك الى حراك شعبي واسع في العديد من البلدان العربية. وهذا المناخ الشعبي العالمي دفع بعض الحكام الغربيين الى التعاطي الإيجابي اللاحق، في الخطاب الرسمي على الأقل، مع هذه الثورات والإنتفاضات العربية. وهو ما عكسه، مثلاً، خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما الشهير في مقر وزارة الخارجية الأميركية يوم 19/5 الماضي، حيث استعاد بعض الكلمات والشعارات المؤثرة بالنسبة للرأي العام الأميركي، مثل الحرية والديمقراطية والكرامة. لكن كل هذه الصيغ الخطابية والتصريحات الرسمية في العديد من الدول الغربية، وغير الغربية، لم تستطع أن تخفي بعض إشارات القلق لدى الأوساط الحاكمة وأصحاب الشركات والمصالح الكبرى العالمية في منطقتنا، خاصة وأن الثورات بدأت تقترب من مناطق حساسة بالنسبة لمصالح هذه الدول وللإقتصاد العالمي بشكل عام، وتحديداً مناطق النفط والغاز الطبيعي في الخليج. ومن منطلق مختلف تماماً، ذهب أحد الفلاسفة الفرنسيين اليساريين المشهورين عالمياً، ألان بوديو، الى حد الحديث عن الأهمية التاريخية بالنسبة للعالم لهذه "الريح الآتية من الشرق"، في مقالة له نشرت في صحيفة "لوموند" الفرنسية بتاريخ 18/2/2011، وحملت عنوان "تونس، مصر: عندما يقوم ريح من الشرق بكنس العنجهية الغربية". من جانبه، عَنْوَن أستاذ السياسة في جامعة سيدني بأستراليا، جون كين، مقالة نشرها موقع أسترالي على شبكة الإنترنت في 1/5/2011، بالكلمات التالية: "العالم العربي: نموذج جديد لثورة حضارية". وجاء فيه: "إذا أجرينا مقارنة، فإن التمردات الشعبية في العالم العربي قد أخذت روح عام 1989 للتمردات "المخملية" غير العنيفة في وسط وشرق أوروبا الى مستوى أرقى". ويضيف: "إن الثورات العربية أوجدت فراغاً إقليمياً في النفوذ. وهي تشكل إنتكاسات كبيرة لإسرائيل، وللولايات المتحدة ولحلفائها"..."إن عدم نجاعة مفاوضات الإتحاد الاوروبي لوضع حد لسياسة إسرائيل المتشددة في وضع اليد على الأرض بات واضحاً، كما هو الصمت المدوي لإسرائيل حول كيفية تعاطيها مع هذه التطورات غير الواضحة الجديدة". وانتهى الى القول: "إن الصبر المفروض على الفلسطينيين لتحمل وضعهم البائس لا يمكن أن يستمر". وهكذا، فإن مشاهد الجموع العربية المتدفقة على الساحات، وخاصة على ميدان التحرير الواسع في القاهرة، في مواجهة آلة قمع رهيبة استمر فعلها، في الماضي، لعقود طويلة، ألهمت العديد من الشبان والقطاعات الشعبية، ليس فقط في المنطقة العربية، وإنما في بلدان ومناطق أخرى من العالم، من أذربيجان، الجمهورية السوفييتية السابقة الواقعة شمالي إيران، الى إسبانيا، البلد العضو في الإتحاد الأوروبي، وحتى الى ولاية ويسكنسن الأميركية، ومؤخراً حتى، وإن بسقف مطلبي محدود دون أي بعد سياسي، الى إسرائيل نفسها. *** لكن، كما ذكرنا، تنبهت القوى الخارجية النافذة لهذه العاصفة الكبرى التي هبّت على المنطقة العربية. وهي سعت، بعد ذلك، من جهة، الى التأثير على تطورات الوضع الناشئ عن الإطاحة بالنظامين الحاكمين سابقاً في تونس ومصر، ومن جهة أخرى، الى استباق مثل هذه التطورات في بلدان عربية، أو غير عربية، أخرى، بحيث يتم التأثير على الوضع في كل حالة باتجاه لا يضرّ بمصالح الدول الخارجية المعنية، سواء عبر دعم قوى معينة في الحركات الإنتفاضية والسعي لتنمية دورها على حساب قوى وتيارات شعبية أخرى أكثر جذرية، أو عبر دعم الأنظمة القائمة عبر إقناعها ودفعها لمحاولة امتصاص جزئي لغضب المنتفضين، وخاصة من خلال إجراء بعض التجميل في النظام السياسي القائم وبعض التخفيف لتأزم الوضع المعيشي للسكان، وخاصة في البلدان الحليفة لتلك القوى الخارجية، والغربية منها بشكل محدد. وقد تحدثنا عن التدخل العسكري والسياسي الغربي في ليبيا لإسناد الحركة الإنتفاضية هناك. ومن جهة أخرى، شهدت مملكة البحرين تدخلاً من دول خليجية أخرى بالإتجاه الآخر، أي باتجاه إخماد التحرك الشعبي. كما هناك محاولات تدخل أميركي وسعودي في اليمن لضمان عدم فلتان الوضع في بلد فقير جداً، لكنه متاخم لبلدان النفط الرئيسية في المنطقة ويقع في منطقة استراتيجية للممرات المائية. وفي بلدان أخرى، مثل سوريا، اتجهت السلطات القائمة الى مواجهة عنيفة للحراك الشعبي. وهذه التطورات كلها حكمتها أوضاع وحسابات مختلفة عما كان الحال عليه في ثورتي تونس ومصر. فمن جهة، تنبه الحكام العرب الآخرين الى "نقاط ضعف" نظامي تونس ومصر، ومن جهة أخرى، دخلت القوى الخارجية على خط مباشر من الفعل والتأثير، لم يكن متاحاً لها بنفس القدر في التطورين الخاطفين في تونس ومصر. ** - هذه المادة هي تطوير لجزء من مادة طويلة تم إنجازها منذ بضعة أسابيع للنشر في إحدى الدوريات الدراسية الفلسطينية حول "الأبعاد الخارجية للثورات والإنتفاضات الشعبية العربية".
تاريخ النشر: 2007/2/1
×
اليسار يرسم خارطة جديدة لأميركا اللاتينية، ومشروع عالم بديل
هذه المادة الإخبارية التحليلية حملت عنواناً هادئاً: "أميركا اللاتينية تواجه عام تغيير". وأوردت في متنها الكلمات التالية: "من المفترض أن تجري إثنتا عشرة عملية انتخاب رئاسية في أميركا اللاتينية بين نوفمبر 2005 ونهاية العام 2006. وهذه الإنتخابات تغطي سبعة من البلدان الثمانية الأكثر سكاناً في المنطقة: البرازيل، المكسيك، كولومبيا، بيرو، فنزويلا، تشيلي، والإكوادور". والبلدان الخمسة الأخرى التي تجري فيها انتخابات خلال الفترة نفسها هي، بالترتيب الزمني: هوندوراس، بوليفيا، كوستا ريكا، هاييتي، ونيكاراغوا. وتضيف مادة "بي بي سي": "من المرجح أن يكون صائباً الحديث عن أن الأحزاب والحكومات اليسارية هي حالياً أقوى في أميركا اللاتينية منها في أي مكان آخر في العالم... لقد اتجهت الأحزاب اليسارية في هذه المنطقة لتحقيق نتائج جيدة من خلال إقتراح شيء مختلف عن سياسات السوق الحرة السائدة التي اتبعتها الحكومات السابقة، واعدةً شيئاً أكثر للفقراء، ومستخدمةً ورقة معارضة بوش، بالإعتماد على عدم شعبية الحرب في العراق بشكل عميق، ومتحدثةً عن تكتيل منطقة أميركا اللاتينية". إكتساح يساري في إنتخابات العام المنصرم ومع إنتهاء العام 2006، تبيّن أن المرشحين اليساريين للرئاسة نجحوا، خلال الفترة المشار إليها أعلاه، في ستة من البلدان الإثني عشر التي جرت فيها إنتخابات للرئاسة، من بينها 4 من البلدان السبعة الأكثر سكاناً في المنطقة. علماً بأن البلد الثامن بين البلدان الأكثف سكاناً في هذه المنطقة هو الأرجنتين. وهو بلد جرى فيه، في ربيع العام 2003، انتخاب رئيس، إسمه نستور كيرتشنير، ينتمي الى التيار اليساري في الحزب البيروني (نسبة الى الرئيس الشعبوي القومي الأسبق، في أواسط القرن العشرين، خوان بيرون). وقد مارس كيرتشنير، منذ انتخابه، سياسة مناهضة لصندوق النقد الدولي ووصفاته الإقتصادية والمالية، وتقارب مع الأنظمة اليسارية الأخرى في القارة، بما في ذلك مع فنزويلا ورئيسها أوغو تشافيس. كما شهدت إحدى مدن بلده، الأرجنتين، وهي مدينة مار دل بلاتا، في أوائل العام 2005، قمة لمنظمة الدول الأميركية، التي تضم مبدئياً كافة دول القارة، بشمالها وجنوبها ووسطها وجزر البحر الكاريبي، قامت خلالها غالبية الدول اللاتينية، بما فيها الأرجنتين نفسها، برفض مقترح الرئيس الأميركي الشمالي جورج بوش بشأن معاهدة السوق الحرة لبلدان القارة كافة، أي بمشاركة الولايات المتحدة، وهو رفض أدى الى تأجيل البت في الموضوع، وعملياً الى تجميده، وحتى دفنه، كما صرّح رئيس فنزويلا. وهو موقف شكّل تحدياً قوياً لإدارة واشنطن وسياستها المهيمنة سابقاً على أنحاء القارة. والبلدان الستة التي أنتخب فيها، خلال العام المنقضي المشار إليه، مرشحون يساريون للرئاسة هي: تشيلي (ميتشيل باتشيليت)، بوليفيا (إيفو موراليس)، الإكوادور (رفائيل كورييا)، نيكاراغوا (دانييل أورتيغا)، بالإضافة الى إعادة إنتخاب رئيسين بارزين من بين رؤساء هذه الموجة اليسارية، هما رئيس أكبر بلدان القارة مساحةً وسكاناً - 190 مليون نسمة-، البرازيل (لويس ايناسيو دا سيلفا، المشهور بلقب " لولا")، وأخيراً وليس آخراً، رئيس أحد أهم البلدان النفطية في العالم، فنزويلا (أوغو تشافيس). وفي ثلاثة من البلدان الستة الأخرى التي جرت فيها انتخابات رئاسية، حقق مرشحو اليسار نتائج قوية، بحيث كان الفارق بينهم وبين المرشحين الناجحين ضئيلاً، وذلك في كل من كوستا ريكا، وبيرو، والمكسيك. وفي الأخيرة، ثاني أكبر بلدان أميركا اللاتينية سكاناً (أكثر من 105 ملايين نسمة)، ذهب المرشح اليساري الى حد التشكيك بانتصار مرشح اليمين، واعتبر أن الفارق ضئيل جداً، بضعة آلاف من الأصوات، الى حد يتطلب إعادة فرز الأصوات يدوياً، وهو ما لم تستجب له المحكمة الإنتخابية العليا إلا في دوائر محدودة عددياً. مما جعل المرشح اليساري (أندريس مانويل لوبيس أوبرادور، المعروف بالأحرف الأولى لهذا الإسم، "أملا") يعتبر النتائج غير شرعية، ويدعو الى تنظيم إعتصامات وتظاهرات شعبية واسعة في العاصمة وفي أنحاء البلد، ثم لتنظيم حفل تنصيب له كرئيس موازٍ وتشكيل هيئات حكم موازية للإدارة التي نصّبت رسمياً. *** وما لفت الإنتباه في هذه النتائج أن الرئيسين اللذين خضعا لإعادة الإنتخاب، وهما "لولا" دا سيلفا في البرازيل وتشافيس في فنزويلا، حققا نتائج متقدمة، أكثر من ستين بالمئة من الأصوات لتشافيس منذ الدورة الأولى، ولـ"لولا" في الدورة الثانية. وذلك بالرغم مما أثير من إشكالات متعلقة بمحاولات شراء بعض مسؤولي حزب الرئيس "لولا" في البرازيل لأصوات عدد من نواب الأحزاب الأخرى في البرلمان لتوفير أغلبية لبعض مشاريع القرارات، حيث لا أغلبية لحزب "لولا" فيه. وكذلك بالرغم من المحاولات الحثيثة والقوية التي بذلتها إدارة جورج بوش في واشنطن لدعم مرشح اليمين في فنزويلا ومحاولة إسقاط تشافيس عبر صناديق الإقتراع، بعد أن فشل إسقاطه بالقوة المسلحة والتخريب الإقتصادي. ومثل هذه المحاولات الأميركية لدعم مرشحي اليمين ومحاربة مرشحي اليسار جرت أيضاً في بلدان القارة الأخرى التي جرت فيها انتخابات خلال العام ذاته، ومن بينها نيكاراغوا، حيث كان الأميركيون يجاهرون بمعارضتهم لعودة الرئيس السانديني اليساري الأسبق دانييل أورتيغا الى الحكم، ويحرّضون علناً ضده. ولكنهم فشلوا في محاولتهم هذه. وبالمقابل، نجحوا في بيرو في منع نجاح مرشح اليسار الإستقلالي، أويّانتا أومالا، لصالح مرشح من التيار الإجتماعي الديمقراطي المصنف عادةً في الوسط أو يسار الوسط، وهو ألان غارسيا، الذي سبق وكان رئيساً للبيرو بين العامين 1985 و1990. وكان رئيساً فاشلاً بشكل مريع على الصعيدين الإقتصادي والأمني، حيث بلغ التضخم والفقر نسباً عالية، من جهة، واتسع نطاق عمليات تنظيم "الطريق المضيء" المعارض العنيفة في البلد. ولم تكن هناك مراهنة أميركية، في البداية، عليه، وحتى عدم ثقة باحتمالات فوزه، لكن فشل مرشحة الحزب اليميني الرئيسي في الدورة الأولى للإنتخابات حوّل الدعم الأميركي واليميني المحلي إليه، بالرغم من سجله السابق، بهدف إفشال مرشح اليسار، المتعاطف علناً مع تجربة فنزويلا ورئيسها تشافيس. وهكذا، عاد ألان غارسيا رئيساً لبيرو، بعد أن كان قد جاهر بأنه، خلافاً للرؤساء اليساريين الجدد في القارة، مناصر لاتفاقات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. وهكذا، عملياً، لم ينجح بشكل قوي مرشحون يمينيون إلا في بلد واحد من بلدان القارة متوسطة الحجم، وهو كولومبيا (45 مليون نسمة)، حيث الرئيس السابق المجدد له في الإنتخابات الأخيرة، ألفارو أوريبي، يلقى دعم واشنطن الإقتصادي والعسكري، بما في ذلك في مواجهة حركات يسارية مسلحة مناهضة لحكمه. والمعارضة المسلحة ظاهرة نادرة في القارة حالياً، بعد أن كانت واسعة الإنتشار في بلدان القارة قبل عقود قليلة. لكن كولومبيا كانت، خلال سنوات طويلة، مسرحاً لإضطرابات مستمرة، ونشاط واسع لتجار المخدرات، وخاصة الكوكايين المشتق من نبتة الكوكا، والذي بحجة محاربته ومحاربة تهريبه الى الولايات المتحدة، استمر تواجد عسكري أميركي في البلد ومارس الأميركيون نشاطاً عسكرياً مباشراً. ويتهم الأميركيون التنظيمين المسلحين اليساريين الرئيسيين، القوات المسلحة الثورية الكولومبية وجيش التحرير الوطني، بأنهما يقومان أيضاً بالإتّجار بالمخدرات، وبهذه الحجة يقومون بالمشاركة في محاربتهما. وواقع الأمر أن اليسار الكولومبي جرّب التحول الى العمل السياسي العلني في العقدين الأخيرين، ولكن كوادره وقادته تعرّضوا الى حملات تصفية وقتل متلاحقة على أيدي "فرق الموت" اليمينية، المشاع أنها قريبة من أوساط جيش السلطة. أما البلدان الباقيان، هوندوراس، في أميركا الوسطى، وهاييتي في بحر الكاريبي على مقربة من كوبا، وهما بلدان صغيران نسبياً (زهاء الـ7 ملايين نسمة للأولى، وأقل من 9 ملايين للثانية)، فقد نجح في انتخابات الرئاسة في الأولى منها مرشح يميني تقليدي، ومرشح وسطي في الثانية. علماً بأن هذا البلد، أي هاييتي، الأفقر والأشد بؤساً في كل القارة، والمأهول حصراً بمواطنين سود من أصول إفريقية، تعرّض في السنوات الأخيرة لإنقلاب مدعوم من الولايات المتحدة أسقط رئيساً شعبياً منتخباً ديمقراطياً وذا نزعة إستقلالية، واجتاحت قوات أميركية البلد بحجة وقف هجرة المواطنين منه بطرق غير شرعية الى الولايات المتحدة، وأخيراً جاءت قواتٍ دولية تحلّ مكان الأميركيين لحفظ الأمن، بعد أن استشرت الفوضى. ولتكتمل الصورة، لا بد من الإشارة الى إن نظاماً يسارياً آخر كان قد نجح في الإنتخابات الرئاسية والتشريعية، في العام 2004، في بلد صغير أيضاً (أكثر قليلاً من ثلاثة ملايين نسمة) في أميركا الجنوبية، هو أوروغواي، الواقعة الى الجنوب من البرازيل والشرق من الأرجنتين على ساحل المحيط الأطلسي الجنوبي. الظل العالي للنظام اليساري في كوبا وهنا ينبغي التشديد على أهمية وجود النظام اليساري التاريخي (منذ العام 1959) في جزيرة كوبا، في البحر الكاريبي (11 مليون نسمة تقريباً)، وحجم تأثيره الكبير. خاصة وأن هذا النظام الذي قاده رئيسه فيديل كاسترو طوال هذه الفترة وحتى مرضه الأخير في صيف العام 2006، وإن وصل الى الحكم عبر ثورة مسلحة، إلا انه كان له دائماً دور سياسي ومعنوي كبير مؤثر على أوضاع عموم القارة اللاتينية، بما في ذلك في متابعة العمليات الإنتخابية في عموم القارة خلال السنوات الأخيرة. حيث إن العديد من الرؤساء اليساريين الجدد في القارة كانوا على اتصال طويل مع كاسترو، وبقي بعضهم زواراً دائمين لكوبا، يتداولون مع رئيسها ويستشيرونه حتى في بعض القضايا التي تخص بلدانهم. وهذا هو، مثلاً، حال الرئيس الفنزويلي تشافيس والرئيس البوليفي إيفو موراليس، وحال الرئيس الأسبق المعاد انتخابه مؤخراً في نيكاراغوا، دانييل أورتيغا، الذي أقام لفترات طويلة في كوبا، بعد أن أنهيت في العام 1990 المرحلة السابقة من حكمه وحكم حزبه السانديني. وتعبير "سانديني" هو إشارة الى أوغوستو ساندينو، أبرز قادة المقاومة في البلد ضد القوات الأميركية الشمالية المحتلة له في أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين. وكانت نيكاراغوا في الثمانينيات الماضية، وهي تحت حكم الساندينيين، قد شهدت حرباً إستنزافية طويلة على البلد واقتصاده المتواضع على أيدي مجموعات "كونتراس" المحتشدة على حدوده، والتي كانت، كما لم يكن سراً في يوم من الأيام، ممولةً ومدعومة ومسلحة ومدربةً من وكالة المخابرات الأميركية، كما شارك "خبراء" إسرائيليون في تدريبها. وليس مستغرباً، في ظل هذا الدور الحيوي لكوبا في عموم القارة، أن تصدر مقالة مطولة في مجلة "فورين أفّيرز" الدورية الأميركية النافذة، في عددها المؤرخ لشهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2007، تحمل عنوان "الإنتصار الأخير لفيديل". وكاتبة المقالة جوليا سوايغ هي مديرة دراسات أميركا اللاتينية في مجلس العلاقات الخارجية، المركز البحثي والدراسي الأميركي الشهير الذي تصدر عنه الدورية. ومن المفيد الإشارة هنا أيضاً الى كون مرشح المعارضة اليسارية في السلفادور، وهو بلد صغير آخر في أميركا الوسطى (زهاء 7 ملايين نسمة)، حصل في انتخابات الرئاسة التي جرت في العام 2004 على زهاء 36 بالمئة من الاصوات في الدورة الأولى و45 بالمئة في الدورة الثانية للإنتخابات، وهو الفلسطيني الأصل شفيق حنضل. وقد خسر لصالح مرشح اليمين، إلياس انطونيو سقا، الفلسطيني الأصل أيضاً ومن نفس المدينة الفلسطينية التي تنتمي إليها عائلة حنضل، وهي بيت لحم. وقد جرت انتخابات تشريعية في هذا البلد في آذار/مارس 2006، بعد رحيل شفيق حنضل في الشهر الأول من العام ذاته، فحازت القائمة اليسارية التي كان يقودها، وهي قائمة جبهة فارابوندو مارتي للتحرر الوطني، على زهاء 40 بالمئة من الأصوات، وجاءت، من حيث عدد الأصوات، في المرتبة الأولى، حتى قبل حزب الرئيس المنتخب. تاريخ طويل من الكفاح التحرري والثورات في القارة هذه التحولات نحو اليسار في القارة الأميركية اللاتينية خلال السنوات القليلة الماضية لها أسباب محددة، أشار إليها باقتضاب تحليل هيئة البث البريطانية المذكور أعلاه. وهو أسباب تؤكد بمجملها أن ظاهرة النجاحات اليسارية الراهنة مختلفة تماماً عن المحطات اليسارية والوطنية الإستقلالية الموقعية السابقة في القارة. وبالتالي هي، على الأرجح، ظاهرة عميقة وطويلة الأمد وليست عابرة. فهي تختلف، بالتأكيد، عن صيغة تداول السلطة الجاري موسمياً، مثلاً، في أوروبا بين الأحزاب اليمينية والتقليدية، من جهة، وتلك الإشتراكية أو الإجتماعية الديمقراطية (يسار الوسط) من جهة أخرى. فلليسار في "العالم الثالث"، بما فيه ذلك اليسار المعتدل الذي نراه في بعض دول أميركا اللاتينية، خصائص مختلفة لها علاقة بمشكلات الفقر وضعف التطور. فالتحولات التي يسعى إليها بعض زعماء هذا اليسار اللاتيني (وخاصة في فنزويلا وبوليفيا، وعلى الأرجح في الإكوادور أيضاً، على أرضية إعلانات ومواقف الرئيس الجديد المنتخب رفائيل كورييا) هي تحولات جذرية تعمل على إحداث تغيير عميق في النظم السياسية والإقتصادية – الإجتماعية في هذه البلدان. وحتى اليسار الأقل جذرية في برامجه السياسية وفي ممارساته، كما في البرازيل والأرجنتين وأوروغواي وغيرها، فله توجهات مناهضة للعولمة الرأسمالية بقوة، وهو ما ليس حال اليسار الأوروبي الإجتماعي الديمقراطي. ومعروف أن أميركا اللاتينية شهدت في الماضي حركات تحررية وإستقلالية عديدة، بعد استقلالها عن إسبانيا والبرتغال في مطلع القرن التاسع عشر، تارةً ضد الإجتياحات الأميركية الشمالية (في المكسيك، كوبا، نيكاراغوا...)، وتارةً أخرى ضد الإقطاع وكبار ملاكي الأراضي (الثورة المكسيكية في الفترة بين العام 1910 وأواخر العشرينيات الماضية)، وأطواراً من أجل تطوير البلد وتحسين الظروف المعيشية لمواطنيه الأفقر، ومن أجل استعادة السيطرة على الثروات الوطنية وتحجيم نفوذ الشركات الكبرى، الأميركية الشمالية غالباً. فكان هناك، مثلاً، النظام القومي الشعبوي الذي أقامه خوان بيرون في الأرجنتين (1946-1955)... وحكم اليساري الإستقلالي هاكوبو أربنس في غواتيمالا (1951-1954)... واليساري جواو غولارت في البرازيل (1961-1964)... واليساري سلفادور أليندي – تلفظ أييندي بالإسبانية- في تشيلي (1970-1973). والثلاثة الأخيرون، وكلهم منتخبون ديمقراطياً، أطيح بهم بإنقلابات عسكرية مدعومة من واشنطن، بحجج تعاطفهم مع الشيوعية والمعسكر السوفييتي. وقد تحدثنا أعلاه عما حصل أيضاً مع النظام السانديني في نيكاراغوا (1979-1990). ويمكن الحديث، في هذا السياق، عن المحاولات العديدة للإطاحة بالنظام اليساري في كوبا، بما في ذلك بالقوة ومحاولات الإغتيال، وأشهرها غزوة خليج الخنازير في نيسان/أبريل 1961 الفاشلة، التي أشرفت على تنظيمها المخابرات المركزية الأميركية. ولكن في الظروف الدولية والإقليمية التي نشأت في العقدين الأخيرين، تحول العديد من الحركات الثورية المسلحة في القارة الى العمل السياسي الديمقراطي فأصبحت أحزاباً علنية، بعضها وصل مؤخراً الى الحكم في سياق العمليات الإنتخابية، كما هو الحال في أوروغواي (حركة توباماروس) ونيكاراغوا وبعض الأحزاب اليسارية المؤتلفة مع حركة تشافيس في فنزويلا، وغيرها. وفي حالات أخرى، شكّلت هذه الأحزاب معارضة سياسية قوية، كما هو الحال في السلفادور. بينما استمرت حركات مسلحة ذات شأن، كما أشرنا أعلاه، في بلد مثل كولومبيا، المتاخمة لفنزويلا غرباً. العوامل التي سهّلت النجاحات الأخيرة لليسار ويمكن ذكر جملة من الأسباب الأبرز لهذا الإنعطاف في تاريخ القارة اللاتينية بهذا الشكل الواسع غير المسبوق، يمكن اختصارها بالعناوين التالية: * تدهور الأوضاع المعيشية وتفاقم الفقر في القارة على أرضية تطبيق وصفات العولمة الرأسمالية، بدفع من صندوق النقد الدولي والإدارات الأميركية، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين خاصة. * نهوض ملموس للنشاط السياسي والمطلبي لقطاعات واسعة من المواطنين في بلدان القارة، وخاصة سكان البلاد الأصليين، المطلق عليهم تعبير "الهنود الحمر"، الذين كانوا، لفترة طويلة في الماضي مهمّشين وبعيدين عن المشاركة في العمل السياسي. * توسع التحالفات السياسية المناهضة لليمين ولنتائج العولمة الرأسمالية، لتشمل قطاعات متنوعة من المجتمع، بما في ذلك بعض الأوساط الدينية المناهضة للظلم، وأحياناً حتى قطاعات من الفئات الوسطى. * تراجع قدرة الولايات المتحدة على التدخل المباشر، بعد انتشار الممارسات الديمقراطية في البلدان الأميركية اللاتينية، وتنامي قوة المجتمعات المدنية فيها، وتعدد الحركات الشعبية ذات الصيغ المطلبية المنظمة. وتراجع الدور الأميركي في القارة تفاقم بعد تورط الولايات المتحدة في حروب أفغانستان والعراق، ومحاولاتها الحثيثة لاحتلال الفراغ الناجم عن إنهيار الإتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، كما والمناطق المحيطة بالصين، المنافس القوي المحتمل للولايات المتحدة في المستقبل المنظور. * بروز قيادات محلية في عدد من بلدان المنطقة ذات سمات كاريزمية وقدرة على تحقيق التفاف واسع حول برامجها وتنظيماتها، وخاصة بعد نجاح تشافيس في فنزويلا وإنجازاته الداخلية والإقليمية ودوره الداعم للحركات اليسارية والتحررية في بلدان القارة. * تعزز حضور قوى عالمية أخرى في القارة، بما فيها الصين، على الأصعدة الإقتصادية والتجارية والإستثمارية، يمكن أن يكون، وغيره من البلدان الصاعدة في العالم، بديلاً قوياً للولايات المتحدة في حال إتخاذها إجراءات حصار أو مقاطعة إقتصادية من قبلها، كما كان الحال من كوبا في العقود الماضية. دون أن يعني ذلك دوراً سياسياً مباشراً للصين وراء الحركات اليسارية، التي، كما ذكرنا، تنطلق من أوضاع بلدانها الخاصة، وطاقات شعوبها. *** فقد واجهت أميركا اللاتينية، كما مناطق أخرى في العالم، في ربع القرن المنصرم، محاولات فرض توصيات صندوق النقد الدولي على بلدان القارة تحت عنوان "الإصلاح الإقتصادي"، وذلك في سياق التحولات العاصفة لعملية انتشار العولمة الرأسمالية، إبتداءً من أميركا الشمالية وبلدان أوروبا الغربية، منذ نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات الماضية، وخاصة بعد وصول مارغريت ثاتشر الى السلطة في بريطانيا عام 1979 واستلام إدارة رونالد ريغن لزمام الرئاسة في الولايات المتحدة في مطلع العام 1981. وإن كانت الإجراءات الأولى المبشّرة بعصر العولمة، وإنتشار تطبيقات ما سمي بـ"الليبرالية الجديدة" على الصعيد الإقتصادي، بدأت بالظهور المتدرج والمتلاحق قبل ذلك، من خلال تنامي الشركات العالمية ما فوق القومية، وتزايد الضغوط الممارسة من قبل الدول الرأسمالية الغنية، وفي المقدمة الدولة الأغنى، الولايات المتحدة، من أجل إزالة كافة العوائق أمام حركة الأموال والرساميل والسلع، والتدخلات الإقتصادية المختلفة، بما فيها المضاربات المالية التي سهّل تنامي وسائل الإتصالات حجمها وقدرتها على التأثير الواسع على أوضاع بلدان العالم. ومعروف أنه، بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، التي شهدت خلالها كافة قطاعات الإقتصاد الأميركي انتعاشاً واسعاً لتلبية متطلبات المعارك على مختلف الجبهات، كانت واشنطن بحاجة الى فتح أسواق جديدة لاستيعاب هذا الحجم المتزايد من الإنتاج الفائض في حالة السلم. وهو ما دفعها لاتباع جملة من السياسات، من بينها رصد أموال كبيرة لإعادة إحياء إقتصادات أوروبا واليابان المدمرة بحيث تتطور احتياجاتها اللاحقة وقدراتها الشرائية من السلع والخدمات الأميركية، لتستوعب قسماً مهماً من فائض الإنتاج هذا، وهو ما حدث فعلاً، وساهم في نهضة بلدان أوروبا واليابان إقتصادياً خلال سنوات، كما ساهم في انتعاش الإقتصاد الأميركي نفسه في العقدين الأولين بعد الحرب العالمية. ثم سعت واشنطن لفتح مزيد من الأسواق عبر محاولات الحلول في بلدان "العالم الثالث" مكان الدول الإستعمارية الأوروبية المنهكة بالحرب العالمية. وهو ما حدث، مثلاً، في منطقتنا العربية بعد حرب السويس الثلاثية ضد مصر في العام 1956، حيث تسارع بعدها فقدان الإستعمارين البريطاني والفرنسي لنفوذهما في المنطقة لصالح الولايات المتحدة بالدرجة الأولى. ولكن بقيت عقبات في وجه هذا التمدد الأميركي، وخاصة حركات التحرر ونزعات تعزير الإستقلال الوطني وما ترافق معها من تحالفات تقيمها هذه الحركات والبلدان التي تحمل نفس طموحاتها مع الإتحاد السوفييتي وبلدان التجربة الإشتراكية الأخرى. وشهدت العقود التالية للحرب العالمية، في هذا السياق، سلسلة من الحروب التي قادتها الولايات المتحدة تحت يافطة محاربة الشيوعية وتمدد نفوذ الإتحاد السوفييتي، وفي الواقع، بالضرورة، من أجل توسيع نطاق نفوذها وهيمنتها في أنحاء العالم، وبطبيعة الحال لتوسيع المجال أمام غزوها الإقتصادي وتمدد شركاتها ومصالحها في كل مكان متاح. وهكذا، شهد العالم حرب كوريا في أوائل الخمسينيات، بقيادة الولايات المتحدة، التي تمكّنت في حينه من أخذ غطاء من هيئة الأمم المتحدة... الى حرب فييتنام التي خاضتها واشنطن في الستينيات وأوائل السبعينيات ضد حركة التحرر واليسار في البلد وعموم الهند الصينية... الى حروب محلية وإقليمية في مناطق أخرى من العالم، بما فيها منطقتنا العربية المشرقية، عبر إسرائيل ولاحقاً بشكل مباشر، حيث كانت واشنطن تغذي هذه الحروب وتدفع عبرها بمصالحها الإقتصادية والإستراتيجية قدماً. وطوال هذه المرحلة التاريخية، كان الغطاء الأيديولوجي، أي محاربة الشيوعية والإتحاد السوفييتي، يسهم في التعمية عن طبيعة الأهداف الحقيقية لهذه الحروب. هذه السياسات الأميركية كانت لها كلفتها المادية والمعنوية بالنسبة لواشنطن، وخاصة حرب فييتنام، التي كانت لها تأثيرات على الوضع الإقتصادي والمالي الأميركي، بحيث أصبح لدى الولايات المتحدة في العام 1971 عجز في الميزان التجاري، وذلك لأول مرة في القرن العشرين. وفي نفس هذه السنة، أعلن الرئيس الأميركي، آنذاك، ريتشارد نيكسون، التخلي عن قابلية تحويل الدولار الى الذهب، التي نص عليها النظام النقدي العالمي الذي أقرّ في العام 1944 في المؤتمر الذي انعقد في بلدة بريتون وودز الأميركية، لتنظيم الوضع النقدي والعلاقات التجارية بين دول الحلفاء الأربعين، ولاحقاً دول العالم الرأسمالي كله. وقد تأسست، انطلاقاً من هذا المؤتمر، مؤسسات هامة لعبت دوراً كبيراً في الحياة الإقتصادية والمالية العالمية، وأولها صندوق النقد الدولي، ومن ثم البنك الدولي، وكذلك منظمة "غات" لتنظيم التعرفة والجمرك في التبادلات التجارية، وهي المنظمة التي انبثقت عنها لاحقاً، في العام 1995، منظمة التجارة العالمية، التي تضم حالياً أكثر من 150 دولة. وبفعل هذه الأزمة الإقتصادية التي أخذت تتفاقم في الستينيات والسبعينيات في الولايات المتحدة، وتنعكس على بلدان رأسمالية متطورة أخرى، سعت مراكز القوة الإقتصادية المؤثرة في هذه البلدان الى الدفع باتجاه إعادة تنظيم اقتصاداتها الداخلية على حساب الطبقات الضعيفة وخاصة قطاعات العمال والموظفين، من جهة، كما عملت على توسيع نطاق نشاطها الإقتصادي العالمي عبر اتفاقات التجارة الحرة، التي تكسر الحواجز الجمركية والحمائية للبلدان الأضعف، وتساهم بالتالي في اجتياح السلع والخدمات والرساميل الخارجية لهذه البلدان، بما يحقق لشركات القوى الإقتصادية الأكبر أرباحاً متزايدة، تعوضها عن تراجع معدلات أرباحها في السنوات السابقة. وكانت أميركا اللاتينية في تلك الحقبة، في معظمها، تحت سيطرة أنظمة عسكرية أو سلطوية قمعية. لكن الأمور بدأت تتغير في الثمانينيات، خاصة بعد هزيمة العسكريين الحاكمين في الأرجنتين عام 1982 في الحرب التي ردت بها بريطانيا على محاولتهم إستعادة السيطرة على جزر فوكلاند (مالفيناس، وفق التسمية الأرجنتينية) الواقعة جنوبي غربي المحيط الأطلسي على بعد زهاء الخمسمئة كيلومتر من شواطئ الأرجنتين. في هذه المناخات الجديدة، أخذت الأنظمة السلطوية والعسكرية تترك المجال لنظم مدنية تعددية اعتمدت الإنتخابات الديمقراطية. وترافق هذا التحول على الصعيد السياسي مع دعوات "الليبرالية الجديدة" الأميركية ونصائح صندوق النقد الدولي الناجمة عن عملية العولمة الرأسمالية التي تحدثنا عنها. وقد ذهبت بعض التطبيقات لهذه السياسات الإقتصادية الجديدة في بعض البلدان الأميركية اللاتينية بعيداً في الإلتزام والرضوخ لوصفات صندوق النقد الدولي، مما نتج عنه، عكس ما كان يروّج له دعاة العولمة ومحاسنها المزعومة، تراجع كبير في الأوضاع الإقتصادية عامة، وفي الأوضاع المعيشية لغالبية السكان، الذين شهدت مداخيلهم تدهوراً متزايداً. وبدأت الإنهيارات النقدية والإقتصادية تتلاحق في هذه البلدان منذ مطلع التسعينيات وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين (المكسيك 1994، الأرجنتين 2001-2002،...)، وهي انهيارات امتدت تأثيراتها الى معظم بلدان القارة، الى جانب إنعكاسات وصلت إليها أيضاً من الإنهيارات الشبيهة التي حصلت في جنوب شرق آسيا عامي 1997-1998 (تايلاند، إندونيسيا، ماليزيا، كوريا الجنوبية، الخ...). وكلها تطورات فاقمت من نسبة الفقر في بلدان المنطقة. وتشير الإحصاءات الإقتصادية المنشورة الى أنه، في حين زاد معدل الناتج القومي الإجمالي للفرد لدول أميركا اللاتينية بين العامين 1960 و1980، أي قبل تطبيقات وصفات "الليبرالية الجديدة"، بحدود 92 بالمئة، مع إحتساب نسب التضخم، لم تتجاوز الزيادة في العشرين عاماً اللاحقة، 1980-2000، الـ9 بالمئة. وحتى بلد غني بالنفط مثل فنزويلا، وهو سابع بلد منتج وخامس بلد مصدّر للنفط في العالم، تراجع معدل الناتج القومي للفرد فيه بين العامين 1980 و1998، عام انتخاب أوغو تشافيس، بنسبة 35 بالمئة! في حين اتسع عدد الفقراء في أحد البلدان الأكثر تطوراً إقتصادياً في القارة، وهو الأرجنتين، من مليون مواطن عام 1990 الى 14 مليوناً عام 2001. وعموماً، فإن أي نمو كان يحدث في أي من بلدان المنطقة، كانت المستفيدة الأكبر منه تلك الشرائح العليا من المجتمعات، وخاصة تلك المرتبطة بالمؤسسات الأجنبية (الأميركية غالباً). هذا، في حين واصلت نسبة الفقر تصاعدها. وهو ما تم تسجيله أيضاً في بلد نفطي آخر في أميركا الجنوبية مثل الإكوادور، وبلد غني بالغاز والمعادن مثل بوليفيا، التي أضحت، عشية انتخاب اليساري موراليس رئيساً في أواخر العام 2005 البلد الأفقر في أميركا الجنوبية، والثاني في مرتبة الفقر في عموم القارة، بعد هاييتي، الواقعة في البحر الكاريبي. انتخاب تشافيس في أواخر 1998... المنعطف وجاء انتخاب أوغو تشافيس في كانون الأول/ديسمبر 1998 واستلامه رئاسة فنزويلا في شباط/فبراير من العام التالي ليؤشر الى انعطافة في مسيرة المنطقة، باتجاه تدعيم النهج الإستقلالي تجاه الولايات المتحدة، والمناهض لتوصيات صندوق النقد الدولي وسياسات "الليبرالية الجديدة" والعولمة الرأسمالية، والنهج الساعي الى حل المشاكل المعيشية الملحّة لغالبية السكان المبتلاة بالفقر الشديد. وكل ذلك أعطى هذا النظام والأنظمة التي تشكلت لاحقاً في القارة على دربه طابعاً يسارياً واضحاً. وطرح تشافيس، مباشرة بعد تسلمه لمهمته الرئاسية، على إستفتاء شعبي، فكرة انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد. فوافق 72 بالمئة من الناخبين على هذا المقترح. فتم انتخاب الجمعية التأسيسية في العام ذاته (1999)، ونجح 95 بالمئة من أنصار وحلفاء تشافيس في هذه الجمعية، مما سهّل مهمة وضع دستور جديد يتناسب مع الرؤية السياسية- الإجتماعية الجديدة التي حملها تشافيس. وهو دستور تم إقراره في كانون الأول/ديسمبر من العام 1999 ذاته. وجرى، على أساس هذا الدستور، انتخاب الجمعية الوطنية الجديدة (البرلمان)، في تموز/يوليو 2000. وأعيد انتخاب تشافيس رئيساً على أساس هذا الدستور، بأغلبية 60 بالمئة من الأصوات، ولمدة حكم تدوم ست سنوات قابلة للتجديد. وأقر تشافيس، خلال الأشهر الأولى لولايته الجديدة، سلسلة من الإجراءات لتوفير الضمان الصحي الشامل للمواطنين والتعليم المجاني حتى المستوى الجامعي، كما أصدر مرسوماً بتوزيع الأراضي. ومن خلال إجراءات لضبط رأس المال والإقتصاد، تمكّن من تخفيض نسبة التضخم في نهاية العام 2001 الى 13،4 المئة، وهي النسبة الأدنى في البلد منذ 14 عاماً. لكن القوى اليمينية التي كانت تسيطر على مقدرات البلد في السابق لم تستسلم، وعادت للعمل على التصدي للنظام اليساري الجديد وعرقلة تطبيقاته البرنامجية، وحتى حاولت الإطاحة به. ووصلت الأمور في نيسان/أبريل 2002 الى حد ترتيب عملية إنقلابية عسكرية- مدنية بمشاركة قطاعات من الجيش وأوساط القطاع الخاص الرأسمالي وبعض النقابات المسيطر عليها من الأحزاب المعارضة، وذلك بعلم ودعم من إدارة جورج بوش الإبن، كما اتضح لاحقاً. وذهب تورط رئيس الولايات المتحدة الى حد إعلان تأييده علناً للحركة الإنقلابية، واعتبارها شرعية!! لكن قطاعات الجيش التي بقيت وفية لتشافيس، مدعومةً بتظاهرات شعبية واسعة، خاصة من القاعدة الإجتماعية الفقيرة المستفيدة من القرارات الإجتماعية للنظام اليساري، تمكّنت من إحباط الإنقلاب خلال 48 ساعة وإعادة تشافيس الى السلطة. ولم تتوقف محاولات التخريب بعد ذلك. فعملت أوساط المعارضة اليمينية على تعطيل القطاع النفطي، المصدر الرئيسي للدخل في البلد، من خلال إضرابات شاملة ووقف الإنتاج من قبل إدارة الشركة النفطية وموظفيها، الذين سعى تشافيس لاستبدالهم بعد إضراب الشهر الأخير من العام 2002 والشهر الأول من العام 2003. وبعد التغلب على هذه المشكلة، عملت حكومة تشافيس طوال العام 2003، على تنفيذ سلسلة من البرامج لمحو الأمية، ولحماية حقوق سكان البلاد الأصليين ("الهنود الحمر")، ثم لتسهيل مواصلة الشبان دراساتهم العليا. ومنذ مطلع العام 2003، تجندت المعارضة اليمينية للإستفادة من بند في الدستور الجديد، الذي أقرّ في بداية حكم تشافيس، يتيح سحب الثقة من أي مسؤول منتخب، بما في ذلك الرئيس، بعد مضي نصف ولايته، عبر عملية إستفتاء شعبية تقام إذا ما تقدم 20 بالمئة على الأقل من مجموع الناخبين المسجلين بطلب بهذا الاتجاه. وقد عمل أنصار المعارضة على جمع تواقيع طلب الإستفتاء، الى أن تمكنوا من جمع العدد المطلوب. وبعد التدقيق في التواقيع من قبل المجلس الوطني للإنتخابات، تم طرح الثقة بالرئيس تشافيس في إستفتاء جرى في آب/أغسطس 2004، فكانت النتيجة أن 59 بالمئة من الناخبين رفضوا سحب الثقة من الرئيس. وهو ما أعطى تشافيس شرعية قوية لمواصلة تطبيق سياساته الجذرية. هذا، في وقت كان فيه تشافيس قد استقدم خبراء وعمالاً من كوبا وبلدان أخرى لإصلاح ما تضرر في القطاع النفطي، بحيث تم استئناف الضخ. وعلى أرضية إرتفاع أسعار النفط بعد الغزو الأميركي – البريطاني للعراق، تمكّنت فنزويلا من تأمين عائدات كبيرة، بلغت عشرات المليارات من الدولارات سنوياً. مما سمح لتشافيس، ليس فقط بتغطية تكاليف عمليات تعليم ومحو أمية وعلاجات طبية مجانية لقطاعات واسعة من الجماهير الفقيرة في البلد، مستعيناً بكادر تعليمي وطبي من عشرات الآلاف من المعلمين والأطباء الكوبيين الذين استقدموا لهذا الغرض، وإنما أيضاً بتوفير مساعدات لهذه القطاعات الفقيرة لتأمين متطلبات الحياة الأساسية، والبدء بمشاريع تطويرية للبلد بمساعدة دول أميركية لاتينية وأوروبية وآسيوية. وفي الوقت ذاته، قدمت حكومة تشافيس كميات من النفط ومشتقاته، بأسعار مخفضة، لعدد من بلدان أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي الفقيرة، وحتى لبعض المناطق الفقيرة في الولايات المتحدة نفسها، بما فيها منطقة نيو أورلينز في جنوب الولايات المتحدة، ذات الإغلبية السوداء، المنكوبة بإعصار كاترينا المدمر عام 2005، وحتى بعض الأحياء الفقيرة في مدن أميركية أخرى، بما فيها نيويورك. كما ساعد تشافيس بعض دول أميركا اللاتينية بتقديم قروض مسهّلة لتسديد الديون التي تراكمت عليها خلال فترات الأزمات ومرحلة سيطرة صندوق النقد الدولي على سياساتها الإقتصادية. فقد ساعد الأرجنتين، إحدى الدول الأكثر تطوراً صناعياً واقتصادياً في القارة اللاتينية، كما ذكرنا، على تنفيذ القرار الذي أعلنته في كانون الأول/ديسمبر 2005 بإنجاز تسديد ما تبقى عليها من ديون لصندوق النقد الدولي، وحجمها آنذاك كان 9،8 مليار دولار. حيث عرضت فنزويلا تقديم زهاء ربع المبلغ (2،5 مليار)، بحيث تخلصت هذه الدولة من ديونها للهيئات الدولية، بعد أقل من أربعة أعوام على الأزمة النقدية والإقتصادية الطاحنة التي شهدها البلد، وأطاحت بعدد من رؤسائه المتلاحقين خلال أسابيع. وجدير بالتذكير أن الرئيس الأرجنتيني الذي انتخب في أيار/مايو 2003، نستور كيرتشنير، الذي ينتمي، كما ذكرنا، الى الجناح اليساري من الحزب البيروني (نسبة الى الرئيس الشعبوي الأسبق خوان بيرون)، أثبت كفاءة عالية في نشل بلده من أزمته، لا بل وتطوير وضعه الإقتصادي بسرعة ووتيرة عاليتين خلال هذه السنوات القليلة، متحدياً بشكل سافر ومتواصل كل نصائح وتوصيات صندوق النقد الدولي، الذي قال عنه كيرشنير "إنه تعامل مع بلدنا كمقاول ومشجع لسياسات تسببت بالفقر والألم لشعب الأرجنتين". وجدير بالذكر أن صندوق النقد الدولي، الذي يضم 184 دولة، تتمتع فيه الولايات المتحدة بنفوذ رئيسي، بحكم نسبة مشاركتها في تمويل الصندوق، مما جعل هذه المؤسسة المالية أداة رئيسية في فرض السياسات الأميركية على الصعيدين النقدي والإقتصادي في أنحاء العالم، وخاصة تطبيقات العولمة الرأسمالية، "الليبرالية الجديدة"، بما يشمل رفع القيود الحمائية على الواردات الخارجية، على حساب المنتوجات المحلية للبلدان الضعيفة إقتصادياً، وتوسيع نطاق سيطرة القطاع الخاص والإستثمارات الخارجية على حساب القطاع العام، من خلال نظام الخصخصة الشهير، الخ... وما فعله تشافيس مع الأرجنتين، اقترح فعله مع الإكوادور الفقيرة في العام 2005 من خلال إعلان استعداده لشراء السندات التي طرحتها الحكومة هناك للبيع لدعم اقتصاد البلد، في وقت لم يكن فيه الحكام هناك من الصف الجديد من القادة اليساريين في القارة... وربما أعطت هذه السياسة ثمارها بعد فترة وجيزة، في إنتخابات الرئاسة التي جرت دورتاها في شهري 10 و11 من العام 2006 في الإكوادور، حيث نجح فيها، وبنسبة عالية من الأصوات (57 بالمئة)، مرشح اليسار المؤيد لسياسات تشافيس، الإقتصادي الشاب رفائيل كورييا. وعندما كانت بوليفيا على وشك خسارة 170 مليون دولار هي قيمة صادراتها السنوية من حبوب الصويا لكولومبيا، التي أقدمت في نيسان/أبريل 2006 على توقيع إتفاقية تجارة حرة ثنائية مع الولايات المتحدة، بما يعطي الأولوية لاستيراد هذه المادة من الولايات المتحدة، تقدمت فنزويلا لشراء المنتوج البوليفي. كما قدمت لهذا البلد الأفقر في أميركا الجنوبية قرضاً بقيمة 100 مليون دولار لتطبيق برنامجه في الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي، ومساعدات متنوعة أخرى لإنجاح تجربة نظام إيفو موراليس، الرئيس اليساري الجديد هناك. ولترسيم ومأسسة سياسات الدعم الإقتصادي هذه، اقترح تشافيس إنشاء "بنك الجنوب" لتمويل التنمية في القارة اللاتينية، برأسمال أولي قدمته فنزويلا قيمته خمسة مليارات دولار. ومثل هذه السياسات المتبعة من قبل النظام اليساري في فنزويلا تدخل في سياق أحد ركائز برنامجه السياسي- الإقتصادي الإستراتيجي، والمتمثل في العمل على إقامة كتلة اقتصادية، ولاحقاً سياسية، لبلدان القارة اللاتينية، لدعم توجهها الإستقلالي والتطويري، بعيداً عن تدخل أو مشاركة المارد الأميركي الشمالي ذي النزعة الإمبراطورية. وتشافيس، في هذا المجال، يستوحي طموحه التكاملي التوحيدي للقارة اللاتينية من الشخصية التاريخية التي ارتبط اسمها في مطلع القرن التاسع عشر بمعارك استقلال ومحاولات توحيد بلدان القارة اللاتينية، سيمون بوليفار (1783-1830)، المولود في كراكاس، عاصمة فنزويلا الحالية، والذي ربط تشافيس إسمه باسم البلد، مطلقاً على البلد اسم جمهورية فنزويلا البوليفارية. دور نشط للصين على الصعيد الإقتصادي... و"مبدأ مونرو" الأميركي في مهب الريح وكما في مناطق عديدة من العالم، دخلت الصين بقوة الى القارة اللاتينية في السنوات الأخيرة، في ظل فورتها الإقتصادية الهائلة في العقدين الأخيرين، وحاجتها المتزايدة للمواد الأولية، وخاصة مصادر الطاقة، النفط والغاز، ومختلف المعادن، كما وحاجتها لأسواق جديدة لمنتوجاتها الغزيرة والمتنوعة. وقد عقدت، بالفعل، في السنوات الأخيرة، عدة اتفاقيات تجارية مع معظم دول القارة. كما عمدت الى استثمار مبالغ كبيرة في عدة بلدان هناك لتطوير البنى التحتية أو إنشاء المشاريع الجديدة. وهكذا، فإن عدة عوامل تساعد الآن بلدان أميركا اللاتينية على تعزيز إستقلالها الإقتصادي والسياسي تجاه الولايات المتحدة، في ظل تراجع قدرة واشنطن والمؤسسات المتأثرة بقرارها، كصندوق النقد الدولي، على الضغط على هذه البلدان أو ابتزازها لإبقائها تحت الخيمة الأميركية الشمالية. وهي ضغوطات وابتزازات، كانت مدعومة في الماضي أحياناً بتدخلات عسكرية مباشرة، أو إجراءات ترهيب وتلويح بالعمل العسكري، وأدامت هكذا لفترة طويلة صلاحية ما سمّي بـ"مبدأ مونرو"، على اسم الرئيس الأميركي الشمالي الأسبق، جيمس مونرو، الذي أعلن عام 1823، رفض تدخل بلدان خارجية، وخاصة البلدان الأوروبية، في شؤون القارة الأميركية، بشمالها ووسطها وجنوبها. وهو ما عنى عملياً احتكار واشنطن للنفوذ في هذه القارة، وما فتح الباب أمام كل أشكال التدخل الأميركي الشمالي في شؤون القارة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، اجتاحت قوات الولايات المتحدة جزيرة كوبا في العام 1898 وفرضت عليها سيطرتها. وتواصل نفوذ واشنطن المباشر أو غير المباشر على الجزيرة عملياً حتى نجاح الثورة التي قادها فيديل كاسترو وانتصرت بدخول ثواره الى هافانا في اليوم الأول من العام 1959. وإزاء النزعة الإستقلالية للنظام الذي أقامه كاسترو بعد وصوله الى السلطة والتوجهات اليسارية لهذا النظام، فرضت واشنطن على كوبا حصاراً إقتصادياً خانقاً، وهو حصار ما زال مستمراً حتى الآن، أي للعقد الخامس على التوالي. وقد أوجد هذا الحصار ظروفاً داخلية صعبة في هذا البلد الصغير نسبياً ذي الموارد المحدودة، خاصة في الفترة التي تلت إنهيار الإتحاد السوفييتي ومنظومة "كوميكون" الجماعية الإقتصادية التي كان يقودها، وكانت كوبا عضواً فيها، في مطلع التسعينيات الماضية. ولم تشهد كوبا إنفراجاً واسعاً في وضعها الإقتصادي إلاّ بعد أن بدأت الأنظمة اليسارية الجديدة في القارة تنفتح عليها، وخاصة فنزويلا، التي قدمت لها كوبا مساعدات بشرية وتقنية من خلال إرسال عشرات الآلاف من المعلمين لمحو الأمية والأطباء لمعالجة الفقراء والتقنيين لإعادة تشغيل القطاع النفطي بعد الإضرابات الإجهاضية التي تعرض لها، كما أشرنا أعلاه. وتلقت كوبا مقابل هذه الخدمات والمساعدات، التي امتدت لاحقاً الى بلدان أخرى في القارة، كميات من النفط ومشتقاته تسد حاجاتها، وأشكالاً أخرى من الدعم الإقتصادي، ترسّمت لاحقاً بإقامة إتفاقية "البديل البوليفاري للقارة الأميركية"، التي شملت حتى الآن كلاً من فنزويلا وكوبا وبوليفيا، وهي صيغة بديلة للصيغة التي طرحتها واشنطن لمنطقة التجارة الحرة للقارة، وتم رفضها من غالبية بلدان القارة. وفيما كانت إدارة جورج بوش، في الأشهر الأخيرة، بعد أن تمكنت في الماضي من استبعاد كوبا من منظمة الدول الأميركية الجامعة لبلدان القارة الشمالية والجنوبية والوسطى كلها، تترقب رحيل فيديل كاسترو، وتستعد لإرسال أنصارها من المهاجرين الكوبيين في أراضيها والمقيمين خاصة في ولاية فلوريدا الجنوبية الواقعة على مقربة من كوبا لإعادة السيطرة على كوبا عبرهم، وفيما هللت جموع المهاجرين اليمينيين هؤلاء لمرض فيديل كاسترو وخضوعه لعملية جراحية جدية تطلبت تسليمه السلطة في كوبا الى حلقة من القيادات في الحزب الحاكم والدولة، اكتشف الأميركيون أن شيئاً ما لم يتغير في كوبا بعد غياب كاسترو المرضي الطويل، وأن لا تظاهرة واحدة خرجت أو حركة احتجاج ظهرت في الشارع تؤشر الى استعجال التخلص من النظام الحاكم. مما دفع بعض المختصين في الشؤون الكوبية واللاتينية في الولايات المتحدة الى دعوة إدارة واشنطن الى إعادة النظر في رؤيتها لكوبا ولافتراضها هشاشة النظام فيها (أنظر في هذا المجال المقال المشار إليه أعلاه: "الإنتصار الأخير لفيديل" في دورية "فورين أفّيرز" الأميركية النافذة، عدد كانون الثاني/يناير 2007). نهوض سكان البلاد الأصليين ("الهنود الحمر") ومن المهم الإشارة أيضاً، كما ورد أيضاً أعلاه، الى عنصر جديد وبالغ الأهمية في الوضع في أميركا اللاتينية خلال العقدين الأخيرين، وهو صعود دور ونشاط أصحاب البلاد الأصليين (المطلق عليهم خطأً تعبير "الهنود الحمر")، واهتمامهم المتجدد بالشأن السياسي والعام. فخلال قرون طويلة من المذابح والإضطهاد والتهميش، كانوا خلالها يشكلون جسماً رئيسياً من القطاعات الأفقر في العديد من بلدان أميركا اللاتينية، وخلال عقود من الديكتاتوريات العسكرية ومن الأنظمة الأوليغاركية التي كانت تحتكر فيها شريحة محدودة من المجتمع، وأحزاب تقليدية مرتبطة بها، بالأساس من ذوي الأصول الأوروبية، إدارة الدول والتعاقب على قيادتها وحكمها، رأى أصحاب البلاد الأصليون أن أفقاً جديداً برز بعد الإنفتاح الديمقراطي الذي فرض نفسه إثر انهيارات الأنظمة الديكتاتورية. وهكذا، بينما لم يتمكن إرنستو غيفارا في أواخر الستينيات الماضية من تحريك قطاعات المزارعين ذوي الأصول "الهندية الحمراء" واستمالتهم لحركته الثورية في جبال بوليفيا الفقيرة، بات هؤلاء، في السنوات الأخيرة، قطاعاً هاماً في الحركة السياسية اليسارية المعارضة للوضع القديم. وبما أنهم يشكلون غالبية السكان في بلد مثل بوليفيا، تمكّن قائد يساري برز من صفوفهم، أي من أهل البلاد الأصليين، هو إيفو موراليس، وهو من قومية أيمارا، من النجاح في انتخابات الرئاسة في أواخر العام 2005. وبدأ، بدوره، بتطبيق برنامجه الجذري، القريب من برنامج تشافيس في فنزويلا، على صعيد تعزيز إستقلالية إقتصاد البلد وتأميم ثرواته الطبيعية وتغيير نظامه السياسي- الإجتماعي، والتعاون والتكامل مع بلدان أميركا اللاتينية الأخرى، بما في ذلك وخاصة في المرحلة الراهنة مع كوبا وفنزويلا. هذه المعطيات الجديدة ساهمت كلها بقوة في إضعاف تأثيرات واشنطن وصندوق النقد الدولي وقدرتهما على ممارسة الضغوط والإبتزازات، وفتحت المجال أمام انضمام بلدان أخرى في القارة اللاتينية، كما ذكرنا، الى النادي المتسع الحجم للبلدان التي تحكمها أنظمة يسارية. أية آفاقٍ لهذا التمدد اليساري؟ من الضروري هنا أن نعيد التأكيد على أن الأنظمة اليسارية الجديدة في أميركا اللاتينية متنوعة السياسات والخيارات والإستراتيجيات طويلة الأمد. فهناك فروقات كبيرة بين توجهات فنزويلا وبوليفيا، وربما الإكوادور في ظل رئيسها الجديد كورييا، وهي توجهات تحررية جذرية تعمل على تغيير عميق لمجتمعاتها ونظامها الإقتصادي – الإجتماعي باتجاه يطلقون هم عليه اسم الإشتراكية، بسماتٍ وخصائص متميزة وجديدة، أطلق عليها تشافيس اسم "إشتراكية القرن الحادي والعشرين"، وبين توجهات وسياسات أنظمة يسارية أخرى اتخذت طرقاً عملية وبراغماتية حذرة في المجالين السياسي والإقتصادي أقرب الى النهج الإصلاحي التدريجي، سواء في البرازيل، أو تشيلي، أو الأرجنتين، أو حتى أوروغواي التي تحكمها جبهة يسارية عريضة. وليس واضحاً بعد أي طريق من الطريقين سيختار الحكم الجديد في نيكاراغوا، برئاسة دانييل أورتيغا، قائد الحركة الساندينية التي حكمت البلد في الثمانينيات الماضية، ببرنامج وتحالفات جذرية آنذاك، في حين أنه خفّف كثيراً من لهجته اليسارية في حملته الإنتخابية الأخيرة في العام 2006، ووسّع تحالفاته كثيراً، الى حد أن نائبه، أي نائب الرئيس الذي انتخب في إطار قائمته، كان، في فترة سابقة، من الشخصيات السياسية في حركة "كونتراس" المناهضة للحكم السانديني في الثمانينيات الماضية. ولكن، وبالرغم من هذه الفروقات بين الأنظمة اليسارية الجديدة، هناك جوامع وتوجهات هامة مشتركة بينها تميّز بين ظاهرة النجاحات اليسارية الحالية وتلك التي حصلت في الماضي بأشكال جزئية وأقل اتساعاً: فكل هذه الأنظمة تسعى الى توسيع هامش الإستقلالية السياسية والإقتصادية لبلدان أميركا اللاتينية تجاه واشنطن، وهو ما ظهر بوضوح في قمة الدول الأميركية في مدينة مار دل بلاتا الأرجنتينية في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2005، كما أشرنا، حين رفضت غالبية الدول اللاتينية، الممثلة برؤسائها، مشروع اتفاقية التجارة الحرة الجماعية التي عرضها الرئيس الأميركي الشمالي جورج بوش المشارك في المؤتمر، وكانت في مقدمة المعارضين، الى جانب فنزويلا طبعاً، دول السوق المشتركة للجنوب "ميركوسور"، البرازيل والأرجنتين وأوروغواي وباراغواي، الذين اعتبروا مشروع الإتفاقية مؤذياً لاقتصاداتهم الوطنية (والدولة الأخيرة، باراغواي، لا يحكمها نظام يساري). ولا بد من الإشارة الى أن البلدان القليلة في القارة اللاتينية التي عقدت أو تتجه لعقد إتفاقات تجارة حرة مع الولايات المتحدة تشهد تحركات واسعة داخلية مناهضة لهذه الإتفاقات وداعية الى إلغائها، بسبب الضرر الذي تلحقه باقتصادها، وخاصة في المجال الزراعي، نظراً لكون القطاع الزراعي في الولايات المتحدة مدعوماً مالياً من الدولة هناك، مما يجعل المنافسة غير متكافئة في سياق تطبيقات التجارة الحرة وإزالة العوائق الجمركية. ومن المفيد الإشارة هنا الى أن الرئيس المنتخب للإكوادور، رفائيل كورييا، كان قد أعلن، حتى قبل الإنتخابات، أنه ينوي في حال انتخابه إلغاء مشروع إتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. وهو موقف ربما كان أحد الأسباب الهامة التي كانت وراء النسبة العالية من الإصوات، غير المتوقعة قبل ذلك بأسابيع، التي حصل عليها في الدورة الثانية من الإنتخابات الرئاسية، في مواجهة مرشح اليمين ألفارو نوبوا، وهو أحد أكبر رجال الأعمال وأغنى رجل في البلد، وقد أنفق أموالاً طائلة في حملته الإنتخابية، دون جدوى. والى جانب هذه النزعة الإستقلالية الواسعة في أنحاء أميركا اللاتينية، هناك أيضاً المنحى المتزايد لدى هذه الأنظمة، بتلاوينها المختلفة للعمل من أجل التعاون البيني والتكامل بين الدول اللاتينية. ومن الواضح أن تشافيس، تحديداً، يرى المستقبل في سياق هذه العملية التكاملية التي يمكن أن تتطور بشكل متدرج باتجاه صيغة تقترب شيئاً فشيئاً من حلم سيمون بوليفار، مرجعية تشافيس التاريخية، وهو حلم توحيد أميركا اللاتينية على أساس هذا البرنامج الإستقلالي التنموي القائم على خيارات وطنية يسارية. وكما اتضح في أكثر من مناسبة، من الواضح أن هناك توجهاً جماعياً لدى الأنظمة اليسارية، بتلاوينها المختلفة، لبناء علاقات دولية مشتركة على أسس جديدة أكثر تكافؤاً ونفعاً للأطراف المعنية. وهو ما سعت إليه هذه الأنظمة في دعواتها لقمة مع الدول العربية عقدت في البرازيل في ربيع العام 2005، وكان التجاوب الرسمي العربي فيها محدوداً للأسف، وقمة أخرى مع الدول الإفريقية عقدت في عاصمة نيجيريا في خريف العام 2006. تجربة أميركية لاتينية متميزة في التعاطي مع المسألة الدينية ومن المفيد هنا الإشارة الى أن هذا النموذج الأميركي اللاتيني لليسار له سمات خاصة، مختلفة في عدد من الجوانب، عن سمات التجارب اليسارية التاريخية التي شهدناها في الماضي، في مجال التعاطي مع مسألة الدين والتدين، مثلاً. فالمسألة الدينية تعامل معها اليسارالمعاصر في أميركا اللاتينية بطريقة فيها درجة عالية من النفس الخلاّق. فرجال الدين هناك لم يكونوا، خاصة في نصف القرن الأخير، جميعهم بالضرورة حلفاء للنفوذ الأجنبي (الأوروبي، ثم الأميركي الشمالي)، أو مرتبطين بالشرائح والنظم المستبدة الحاكمة في بلدان القارة. بل حدث هناك انقسام بين من هم من بين رجال الدين (والدين الغالب في أميركا اللاتينية هو المسيحية الكاثوليكية) منحازون الى الشرائح الحاكمة، من جهة، وأولئك الذين اختاروا الإنحياز الى الفئات الشعبية المقهورة والفقيرة، وحتى الى الحركات اليسارية والثورية المسلحة. فلا زال هناك حديث في هذه القارة، مستمر منذ أواسط القرن العشرين، عن الطروحات التي أطلق عليها تعبير "لاهوت التحرير". والمقصود تنظيرات وأفكار رجال الدين الذين انحازوا لصالح الفئات البائسة والمضطهدة في مجتمعاتهم، ووجدوا تقاطعات واسعة مع الإتجاهات اليسارية النشطة هناك في تلك المرحلة. وتتحدث تلك المرحلة عن رجال دين ذهبوا الى حد حمل السلاح ضد الأنظمة المستبدة والتابعة للأجنبي، ومنهم الثائر الكولومبي الشهير، الأب كاميلو تورّيس، الذي كان مشاركاً في حركة مسلحة يسارية واستشهد في ميدان المعركة في كولومبيا في العام 1966، ونسب إليه القول أنه "لو كان المسيح حياً اليوم، لكان ثائراً مسلحاً (فدائياً، أو من رجال الغوار)". ومن بين أنصار هذا المفهوم الإنساني التقدمي للدين أيضاً رجال دين وصلوا الى مراتب عليا في الكنيسة، كما هو حال كبير أساقفة سان سلفادور، أوسكار روميرو، الذي انتقد وعارض علناً سياسات حكومة السلفادور العسكرية اليمينية في أواخر السبعينيات الماضية، وحتى اعترض على انتقاد بابا الكنيسة الكاثوليكية يوحنا بولس الثاني ابان زيارة له الى السلفادور لـ "لاهوت التحرير". وقد كلفت هذه المواقف الأسقف روميرو حياته، في بلد مضطرب آنذاك كالسلفادور، فكان هدفاً للإغتيال، حيث أطلقت مجموعة من" فرق الموت" التابعة لليمين السلفادوري النار عليه وهو يقوم بالقداس في الكنيسة في عاصمة السلفادور في آذار/مارس 1980. وتجري الإشارة أيضاً في هذا المجال الى سمة مميزة، على هذا الصعيد، كانت للنظام السانديني اليساري الذي وصل الى السلطة في نيكاراغوا في العام 1979. فقد شارك في الثورة الساندينية وفي الحكم اللاحق عدد من رجال الدين اليساريين، من بينهم الأب ميغيل ديسكوتو، الذي أصبح وزيراً لخارجية الحكم السانديني، والأب إرنستو كاردينال، الذي صار وزيراً للثقافة. وفي مقابل هذه النماذج، وقف عدد من كبار رجال الدين الكاثوليك في أميركا اللاتينية ضد القوى المقاومة وضد اليسار، وانحازوا الى جانب السلطات الحاكمة. وشجّعهم على ذلك الموقف النقدي الحاد للتيار الديني اليساري في القارة الذي اتخذه البابا يوحنا بولس الثاني، وكذلك مستشاره يوزف راتسنغر، الذي أصبح مؤخراً البابا بينيديكتوس السادس عشر. وجدير بالذكر أن كتاباً صدر، في أواسط الثمانينيات الماضية، هو نص حوار طويل أجراه مع الزعيم الكوبي فيديل كاسترو أحد رجال الدين البرازيليين من أنصار "لاهوت التحرير"، واسمه فراي (الراهب) بيتّو. وتناول الكتاب في ما تناول موقف كاسترو من الدين والعلاقة الممكنة بين المسيحيين واليساريين. ومن بين ما قاله كاسترو في الحوار هو أن لا شيء يحول دون مشاركة المسيحيين المؤمنين في الحركات الثورية، وأن هناك آلاف التقاطعات بين الشيوعية والمسيحية أكثر مما هناك من التقاطعات بين الرأسمالية والمسيحية. وقد أشار كاسترو في هذا الكتاب الى اهتمامه ومتابعته لدور رجال الدين المسيحيين في الثورة الساندينية في نيكاراغوا، وهو تطور اعتبره عنصراً مهماً في مسيرة الحركات اليسارية التحررية في القارة اللاتينية. ويبدو أن هذا الكتاب الحواري، الذي نشر بالبرتغالية والإسبانية ثم ترجم للغات أخرى، كان له تأثير كبير على أوساط واسعة من قرائه، ليس فقط في أميركا اللاتينية، وإنما أيضاً في أوساط مهتمة في بلدان أخرى، كما تظهر بعض التعليقات المنشورة على شبكة الإنترنت من بعض قراء هذا الكتاب في بلد كالولايات المتحدة. تحدثنا عن هذا الموضوع بسبب كون بعض الحركات اليسارية المعاصرة في أميركا اللاتينية غالباً ما تتحدث عن مرجعياتها الفكرية اليسارية والمسيحية في آن واحد. وهو حال أوغو تشافيس في فنزويلا، الذي أشار مراراً في تصريحاته الى هذه المرجعية المزدوجة، مركّزاً على الجانب المناصر للفقراء والمضطهدين في التراث المسيحي الأول، وفي المقولات المنسوبة للمسيح بهذا الشأن. والأمر نفسه ينطبق على حزب الشغيلة في البرازيل، الذي شارك في تأسيسه في العام 1980 رئيس البرازيل الحالي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وهو حزب كان منذ البداية تجمعاً من مجموعات من النقابيين والناشطين اليساريين والمثقفين والمسيحيين اليساريين. وحتى الرئيس المنتخب الجديد للإكوادور، رفائيل كورييا، يقدم نفسه كمسيحي يساري. وهكذا، من الواضح أن التيارات اليسارية الأميركية اللاتينية المعاصرة ليس فقط لا تصطدم مع الدين والتدين، وإنما تعتبر الجمهور الواسع الفقير والمضطهد في هذه القارة، وهو في الغالب جمهور متدين، كما هو الحال في مناطق أخرى من العالم، هذا الجمهور هو، بطبيعة الحال، قاعدة اجتماعية وسياسية مفترضة للحركات السياسية اليسارية الساعية الى تغيير جذري لصالح هذه الجماهير، بالدرجة الأولى. وهو ما تظهره الآن، ليس فقط أقوال، وإنما أفعال الحكومات اليسارية الجديدة في القارة، وخاصة تلك التي ترفع برامج تغيير جذرية، كما يظهره التجاوب الذي تلقاه هذه الحكومات في الأوساط الشعبية والفقيرة. *** بقي أن نعيد التأكيد ان ما يجري في أميركا اللاتينية من تقدم واسع للخيار اليساري هو منعطف تاريخي بالنسبة للقارة. وهو ليس تكراراً لظواهر وحالات موسمية شعبوية ويسارية شهدتها القارة في الماضي، على غرار تلك التي تحدثنا عنها أعلاه. وهو ما يعني أن العملية ستستمر، وتتجذر، على الأرجح. وهو تطور هام يحتاج الى متابعة واستخلاص الدروس المفيدة بالنسبة للشعوب والمناطق الأخرى في "العالم الثالث" خاصة، بما في ذلك منطقتنا. وجدير بالإشارة في سياق تسجيل الطابع العميق لهذا التطور في أميركا اللاتينية، أنه، حتى في البلدان التي لم ينجح فيها المرشح اليساري للرئاسة، حقق التيار اليساري حضوراً قوياً في المجالس النيابية والبلدية، وأصبح قوةً مؤثرة في الحياة السياسية. وهكذا، فحتى إذا تصاعدت لاحقاً الحملات العدائية ومحاولات إجهاض هذه التحولات من قبل الولايات المتحدة وأنصار سياساتها المحليين، فإن هناك قواعد جديدة للعمل فرضت نفسها في مجمل القارة اللاتينية والكاريبي. فهذا التلاقي التاريخي بين اليساريين القدماء والجدد، وذوي الأصول "الهندية الحمراء"، والمسيحيين المتنورين وكل المناصرين للفقراء والمضطهدين، والذي تواكب مع انكشاف مثالب وعيوب، إن لم نقل كوارث، نظام العولمة الرأسمالية الذي حاولت واشنطن فرضه على مجمل القارة اللاتينية، فتح الأبواب أمام ما اعتبره تقرير آخر نشر على موقع هيئة البث البريطانية (بي بي سي) على الإنترنت في ربيع العام 2006 "خسارة الولايات المتحدة لأميركا اللاتينية". حيث يقول كاتب التقرير: "إنها واحدة من أهم قصص عالم العام 2006، وأقلها إشارة إليه...لقد خسر جورج دبليو بوش أميركا اللاتينية". *** يبقى أن نرى في المستقبل القريب كيف يمكن أن تحقق هذه الأنظمة اليسارية برامجها على الأرض، وكيف يمكن ليس فقط أن تحافظ على قاعدتها السياسية الإجتماعية (أكثر من 60 بالمئة من الناخبين في إعادة انتخاب كل من تشافيس في فنزويلا ولولا دا سيلفا في البرازيل في الأشهر الأخيرة من العام 2006)، وإنما كيف يمكن أن توسع هذه القاعدة باتجاه شرائح أخرى من المجتمع، وتذهب باتجاه تقليص القاعدة السياسية الإجتماعية للمعارضة الملتفة حول الشرائح العليا ذات المصالح المرتبطة غالباً بالشركات الأجنبية والفئات الطفيلية الثرية، أي نواة اليمين الصلبة، بما يجعل هذه الشرائح مهمّشة سياسياً واجتماعياً، بعد أن كانت هي التي تقوم بتهميش اليسار والإتجاهات التحررية والقطاعات الشعبية عامةً طوال عقود طويلة. ولا شك، مثلاً، أن وضع بلد مثل البرازيل أكثر تعقيداً من وضع فنزويلا أو بوليفيا، بسبب حجم البلد، ولكون الحزب اليساري الذي ينتمي إليه الرئيس" لولا" في البرازيل لا يملك أغلبية في الهيئات التشريعية، مما يضطره الى عقد صفقات مع الأحزاب الأخرى لتمرير مشاريعه التشريعية والتطويرية، بالرغم من كون النظام السياسي في البرازيل نظاماً رئاسياً، كما في الولايات المتحدة، يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات واسعة. أما الوضع في فنزويلا، كما ذكرنا، فهو حالياً مؤاتٍ جداً لمشروع تشافيس الجذري. حيث لديه، الى جانب أغلبيته الكبيرة في إنتخابات الرئاسة التجديدية الأخيرة، سيطرة كاملة على المجلس التشريعي، لكون المعارضة فضّلت، ابان انتخاب المجلس عام 2005، مقاطعة الإنتخابات، على الأغلب بسبب ضعفها وعدم قدرتها على إبراز ديناميكية موحدة للتيار اليميني الذي تمثله، والذي لم يكن له رأس واحد قادر على منازلة رأس اليسار الحاكم. وإن كانت أوساط اليمين، بدفع من الإدارة الأميركية، نجحت في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة في الإتفاق على مرشح واحد لها في مواجهة، غير ناجحة، لشعبية تشافيس الهائلة. نحو عالم جديد؟ وهكذا، فإن العالم يتحرك بقوة تحت أعيننا. فالسياسات العدوانية لإدارة جورج بوش الأميركية اليمينية، وتخبطها في مشاكل واسعة إثر مغامرتها الفاشلة في العراق، فاقمت من عزلتها الدولية والعداء الواسع لسياساتها الإمبريالية الكونية. وبالمقابل، نشهد الصعود الكبير للصين كقوة عالمية مرشحة لتصبح دولة عظمى في ظرف سنوات، وحسب العديد من المحللين، لتتجاوز حتى الولايات المتحدة إقتصادياً خلال زهاء الثلاثة عقود. كما نشهد صعود قوى عالمية أخرى، من بينها الهند، ودوراً محتملاً أبرز لروسيا الإتحادية عالمياً خلال السنوات القادمة، دوراً أكثر إستقلالية على الصعيد الدولي وخاصة تجاه الولايات المتحدة. كل ذلك الى جانب هذه الديناميكية الداخلية المثيرة للتحولات الجارية في القارة الأميركية اللاتينية، التي تفتح الباب أمام مستقبل مهم ومؤثر عالمياً للقارة الأميركية اللاتينية، خاصة إذا ما تمكّن قادتها من جمع كياناتها ودولها في مشروع تاريخي كبير، وصل تشافيس في أحد تصريحاته الى حد وضعه في سياق طموح كبير لجعل القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً لاتينياً. وهو طموح كبير، وربما أكبر من إحتمالات العقود الأولى من القرن. لكن شيئاً ما تحرك في هذه القارة المغبونة... قارة السكان الأصليين المضطهدين والمهمّشين منذ الغزو الأوروبي في أواخر القرن الخامس عشر... وقارة السود الذين استجلبوا من القارة الإفريقية كعبيد للعمل في المزارع والمناجم التي كان البيض يسيطرون عليها... وقارة كل ذوي الخيارات اليسارية والإنسانية النبيلة، خيارات التحرر الناجز والإستقلال ومواجهة التحدي التاريخي الذي فرضته قوى الإستغلال والهيمنة والإفقار المتفاقم، في الماضي، كما في مرحلة العولمة الرأسمالية المتوحشة التي نعيش. إنها ربما بدايات تبلور تلك العولمة البديلة على الأرض، بعد أن كان شبان العالم وقواه الطموحة والتواقة للعدالة وكرامة الإنسان قد رفعوا راياتها منذ أواخر القرن العشرين في شوارع المدن والعواصم العالمية التي كانت تلتقي فيها قمم الأغنياء ومؤسساتهم المالية والإقتصادية. والذين استمعوا الى الإغنية الوطنية التي أنشدها الشيخ إمام في أواخر ستينيات القرن العشرين "غيفارا مات"، يدركون اليوم أن البصمات التي تركها غيفارا على هذه القارة بموته المأساوي، الى جانب تضحيات الآلاف من رفاق الدرب والطريق من أنصار الخيار التحرري الإستقلالي اليساري في تلك القارة المشتعلة والمليئة بالطموح، كانت، في نهاية المطاف، أقوى من رصاصات وحروب جلاديهم، وزرعت بذوراً في أرض تبيّن الآن أنها خصبة جداً، بالطموحات والآمال الكبيرة، وبالتطلعات الإنسانية التواقة للعدل والحرية. فربما مات إرنستو غيفارا ورفاق دربه الكثر في أنحاء القارة... لكن الرسالة وصلت. - عن فصلية "سياسات" الفلسطينية التي تصدر عن معهد السياسات العامة في رام الله – البيرة وغزة، والتي صدر عددها الأول (شتاء 2007) مؤخراً. تاريخ النشر: 2005/2/18
×
في الانتخابات الفلسطينية: التمثيل النسبي لتوطيد وحدة الشعب
ما ينبغي أن يهمنا، نحن الفلسطينيين، ليس فقط ما قيل ويقال عن هذه العمليات الانتخابية التي جرت حتي الآن ـ ونحن نطمح الي مستوي أفضل من الأداء في الانتخابات القادمة ـ، بل أن نضمن استمرار واكتمال هذه العمليات، بالاسراع في انجاز سائر حلقات الانتخابات المحلية في مختلف المدن والقري والمخيمات في الضفة الغربية وقطاع غزة... والأهم، التحضير الجيد (من خلال إقرار قانون انتخابي متطور)، والانجاز القريب للعملية الانتخابية الرئيسية، وهي الانتخابات التشريعية، التي، ستشكل، إذا ما انجزت في أفضل الشروط الممكنة، بالرغم من عراقيل واعتراضات المحتلين وأصدقائهم المحتملة، مدخلاً بارزاً لتطوير النظام السياسي الفلسطيني وتجسيد الشراكة الجماعية لكل تيارات الشعب الفلسطيني في صنع القرار وإدارة دفة الكفاح الوطني. وينبغي اعتبار المشاركة الواسعة لمختلف التيارات السياسية والاجتماعية في الإنتخابات المحلية، والعديد منها في الانتخابات الرئاسية، والعزم المتوقع لمختلف التيارات للمشاركة في الانتخابات التشريعية، أمراً بالغ الايجابية والجدوي بالنسبة للنضال الفلسطيني. فعبر انتخابات كهذه يتم، أولاً، وضع كافة القوي والتيارات أمام امتحان المصداقية الشعبية، وثانياً، ترسيخ وتجسيد الوحدة الوطنية بشكل عملي ملموس، أرقي، بالتأكيد، من ذلك الشكل الذي تم اعتماده، بحكم الظروف الخاصة للتشتت الفلسطيني، في إطار هيئات منظمة التحرير الفلسطينية منذ أواخر الستينيات الماضية. ولكن هنا ينبغي أن نتنبه لقضيتين هامتين لا يمكن القفز عنهما: أولاً، كون الشعب الفلسطيني ليس مقتصراً علي سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بفعل وجود أكثر من أربعة ملايين لاجئ (من اللاجئين الأصليين وذريتهم) خارج فلسطين لا تنفصل قضية مصيرهم ومستقبلهم عن قضية مصير إخوتهم في القدس والضفة والقطاع، مما يستوجب الحفاظ علي هيئات منظمة التحرير الفلسطينية الممثلة لعموم الشعب والعمل علي تطوير طابعها التمثيلي الجامع قدر الإمكان، وثانياً، كون استمرار الاحتلال يجعل الطابع الأساسي للمرحلة مستمراً كما كان منذ انطلاقة الثورة المعاصرة، طابع النضال التحرري الوطني، طالما لم يسلّم المحتلون بضرورة إنهاء احتلالهم وجلائهم عن الأراضي المحتلة عام 1967، واحترام الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، بما فيها حقوق اللاجئين كما تقرها قرارات الشرعية الدولية، وخاصة القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948. ومن هذه الزاوية، فإن النظام الانتخابي الذي يتم إقراره لتجري علي أرضيته الانتخابات التمثيلية العامة في الوطن، ينبغي أن يصب باتجاه تدعيم وترسيخ وحدة الشعب ومشاركته الجماعية في النضال من أجل التحرر من الاحتلال، وفي مواجهة النزعات الإستعمارية التوسعية والقعمية التعسفية لهذا الاحتلال. ولا شك أن نظام التمثيل النسبي هو النظام الأفضل لتوفير شروط هذه المشاركة الجماعية في إدارة الشؤون المتعلقة بالعملية النضالية علي كافة المستويات، سواء في الإنتخابات التشريعية التمثيلية العامة، أو في الانتخابات المحلية وانتخاب الهيئات النقابية والجماهيرية المختلفة. فالأنظمة الأخري لا توفر شروط هذا التمثيل الجماعي والمشاركة الواسعة لتيارات الشعب وقطاعاته المختلفة. وهذه الأنظمة الأخري يتم اعتمادها، غالباً، في الدول المستقلة، لتسهيل تأمين أغلبية واضحة متجانسة سياسياً تتمكن من تشكيل حكومة مستقرة، وأحياناً أيضاً بهدف إستبعاد بعض التيارات التي تعتبر متطرفة أو غير مرغوب بحضورها في الهيئات التشريعية والتنفيذية المنبثقة عنها (فهذا، مثلاً، حال النظام الانتخابي في ألمانيا الاتحادية الغربية أبان الحرب الباردة الذي سعي لاستبعاد تمثيل التيار الشيوعي، وحال النظام الانتخابي الحالي في فرنسا الذي يحجّم القوي اليسارية المتشددة ويستبعد أو يحجّم تمثيل اليمين القومي المتطرف). والحال عندنا ليس، ولا ينبغي، أن يكون كذلك. فمشكلتنا ليست في توفير حكومة مستقرة ذات أغلبية من لون واحد أو لونين علي الأكثر، بل هي في تمكين مختلف تيارات الشعب من المشاركة في إدارة العملية النضالية وتوفير شروط الصمود الشعبي لضمان استمرارية هذه العملية ووصولها الي أهدافها المرجوة. وإذا أخذنا الحلقات التي جرت حتي الآن من الانتخابات المحلية في بعض مدن وقري الضفة الغربية وقطاع غزة، ندرك، وإن كان هذا الإدراك بالنسبة للبعض منّا أتي متأخراً، كم كان من الأفضل اعتماد نظام التمثيل النسبي في هذه الانتخابات. فبالرغم من أهمية مشاركة التيار الإسلامي السياسي في هذه الانتخابات، وفوزه في عدد هام من المجالس التي تم انتخابها، إلا أن نظام الأغلبية البسيطة الذي اعتمد في الانتخابات البلدية، كما اعتمد في الانتخابات الأولي للمجلس التشريعي في العام 1996، يجعل العديد من الأصوات، لا بل غالبيتها، تضيع ولا تحقق أي تمثيل لأصحابها. وهذا لا يشمل التنظيمات أو القوائم الأصغر حجماً أو حضوراً فحسب، بل أيضاً التنظيم الخاسر من بين التنظيمين الكبيرين في الساحة الفلسطينية، حركتي فتح و حماس . فحيثما تحصل الأولي علي غالبية المقاعد، يتم تحجيم أو تغييب الثانية، والعكس طبعاً. وهذا أمر غير مفيد، في هذه المرحلة التاريخية تحديداً، كما ذكرنا. والأمر نفسه ينطبق علي الانتخابات التشريعية. فاعتماد التمثيل النسبي يوفر حضوراً لمختلف التيارات وفق حجم حضورها في الشارع. وإن كان نظام القوائم والتمثيل النسبي يتضمن ثغرة تتعلق بعدم توفر علاقة مسؤولية مباشرة بين النائب المنتخب وناخبيه (وقد أوجدت بعض الأنظمة الإنتخابية في العالم حلولاً متنوعة لهذه الثغرة)، يبقي نظام التمثيل النسبي هو الأفضل في الوضع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني. وهو، بالمناسبة، النظام المعتمد بشكل كامل (أي التمثيل النسبي لكل مقاعد الهيئة النيابية، أو البرلمان) في زهاء ثمانين من دول العالم، وبشكل جزئي في عشرات أخري من بلدان العالم. والقوائم المعتمدة في انتخابات كهذه يمكن أن تكون قوائم حزبية أو ائتلافية أو قوائم تتشكل خصيحاً للانتخابات بغرض الدفاع عن قطاع محدد (مثل المعاقين، أو المتقاعدين، مثلاً) أو عن قضية محددة (مثل قضية البيئة، أو قضية حقوق المرأة والطفل، الخ..)، أو قوائم أشخاص مستقلين يأتلفون لخوض مشترك للعملية الانتخابية. وحتي لا يبدو وكأننا نتحدث عن نظام هجين وغير معروف من شعبنا الفلسطيني، يكفي أن نشير الي نظام انتخاب المجالس الطلابية في عدد من جامعات الضفة الغربية (جامعتي بيرزيت والنجاح، مثلاً)، حيث تتمثل كافة القوائم المتنافسة التي تحصل علي الحد الأدني الضروري للحصول علي مقعد واحد في مجلس الطلبة، كما تتمثل في الهيئة الادارية التنفيذية المصغرة، وفق حجم الأصوات التي تحصل عليها. وهو نظام من الواضح أنه يعزز التفاعل بين التيارات المختلفة في صفوف الطلبة ويحدّ من ظواهر التنافس العنيف والاستئثار بالسيطرة المطلقة لتيار واحد علي المجالس الطلابية. يبقي أن نقول أن عدداً بارزاً من القوي السياسية والهيئات الشعبية والمنظمات الأهلية وغير الحكومية ومن الشخصيات الوطنية كان قد عمل، منذ أكثر من عامين، علي الدفع باتجاه تبني نظام انتخابي جديد بديل عن نظام العام 1995 يعتمد صيغة وسيطة بين نظام التمثيل النسبي الكامل ونظام الدوائر والأغلبية البسيطة المعتمد في القانون القديم، تدعو الي تقسيم المقاعد بالتساوي بين النظامين، أي اعتماد نصف المقاعد في المجلس التشريعي وفق نظام التمثيل النسبي علي مستوي الوطن ككل والنصف الآخر وفق النظام السابق المعروف. كما دعا أنصار القانون الجديد الي اعتماد التمييز الايجابي للنساء، بتخصيص 20 بالمئة من المقاعد لهن، أسوة بما تم اتباعه في عدد من دول العالم لتطوير حضور المرأة في العمل السياسي والتشريعي. وقد بذلت خلال العامين ونيف الأخيرة جهود كبيرة مع جهات مسؤولة في السلطة التنفيذية والمجلس التشريعي ومع أوساط مؤثرة في المجتمع للدفع بهذا التطوير في النظام الانتخابي. وقد أبدي عدد من كبار المسؤولين ومن أعضاء المجلس التشريعي ومن قيادات حركة فتح ، التي ينتمي اليها غالب أعضاء المجلس التشريعي الحالي، تفهماً وتأييداً للمطالب المشار إليها أعلاه. لكن التعاطي العملي للمجلس التشريعي، في الأسابيع الأخيرة، مع مشروع القانون الذي أعدته اللجنة القانونية للمجلس في أواخر العام المنصرم، وهو مشروع تضمن تطويرات ايجابية ومهمة، انتهي الي اعتماد قانون آخر بالقراءة الأولي قبل أيام، يحصر التمثيل النسبي في ثلث مقاعد المجلس الجديد (44 مقعداً إضافة الي المقاعد الـ88 المعتمدة في المجلس السابق بحيث تبقي هذه المقاعد، كما كانت، مخصصة لنظام الأغلبية البسيطة). كما ويلغي القانون المعتمد بالقراءة الأولي التمييز الايجابي للنساء. ولا نعتقد أن هذه الصيغة تلبي متطلبات المرحلة التي أشرنا إليها، أو تحول دون عودة صيغة من صيغ الاستئثار من قبل طرف سياسي واحد، لن يكون بالضرورة ذاته الذي كان حاضراً منذ انتخابات العام 1996. وفي أحسن الأحوال، سنكون أمام صيغة تضخّم تمثيل طرف واحد مقابل تحجيم وتهميش، وحتي تغييب، أطراف أخري من التمثيل في المجلس الجديد. وهو أمر ليس مفيداً ولا يساهم في تأمين جماعية المسؤولية والدور الرقابي القوي المؤمل لمجلس تشريعي تعددي جديد يشكل دعامة بارزة في النظام السياسي الفلسطيني الجديد المؤمل. قد يكون التمثيل النسبي الكامل، كما ذكرنا، هو الأنسب للمرحلة التي نعيشها، مع بعض التطويرات التي يمكن استنباطها من أنظمة أخري في العالم (النظام الألماني، مثلاً) من أجل إبقاء علاقة مباشرة بين الناخبين وممثليهم، ومن أجل إعطاء الناخبين حق إبداء الرأي في تشكيلات القوائم نفسها. لكن تلك الأنظمة تبدو معقدة بعض الشيء وتتطلب اقتناعاُ واسعاُ، وبالتالي حواراً مسبقاً بشأنها. - (القدس العربي 18/2/2005) - اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647 القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14 حي المصايف، رام الله الرمز البريدي P6058131
للانضمام الى القائمة البريدية
|