مفتاح
2024 . الإثنين 1 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 

انقشع المنخفض الجوي الأخير الذي ضرب الأراضي الفلسطينية خلال الأيام الماضية مختطفا خمسة مواطنين، شابتان من نابلس ، واخر من طولكرم ، ورجل من جنين ، ومسنة من مخيم نور شمس ، ومخلفا وراءه خسائر مادية بملايين الدولارات ، إذ يشير وزير الزراعة السيد وليد عساف بأن الدلائل الأولية تشير إلى أن حجم الخسائر في القطاع الزراعي وحده من المتوقع أن تتجاوز ثلاثين مليون شيكل ، هذا عدا عن الخسائر في البنى التحتية للمؤسسات العامة والخاصة، بالإضافة إلى ما يشكله تعطيل مختلف قطاعات الإقتصاد الوطني بما فيها البنوك من أثر سلبي على الإقتصاد الوطني ومسيرة التنمية في الوطن ، وكأن المواطن الفلسطين الذي لا زال يعيش خيبة وصدمة من الموقف العربي الرسمي غير المبرر بتأخير أموال شبكة الأمان الشهرية، على موعد مع صفعة جديدة ، وتقريع إضافي بيد الطبيعة.

هذا الإنقشاع قابله انبلاج حقيقتين ، اولاهما مضيئة مشرقة تستحق من الفخر والثناء والتقدير ، فقد أظهرت قسوة الطبيعة الكثير من جماليات شعبنا العظيم، وطاقاته الإيجابية المحمودة ، وأخلاقياته الرفيعة ، ومحاسنه التي تفجرت متحررة من كل ما اعترى نفسيتنا من أمراض اجتماعية راكمها الانقسام والفقر والتحزب الأعمى ومحدودية الأفق ، وكأن الثلوج قد كست قلوبنا بنقائها ، والأمطار قد غسلت أدران الماضي وأعادت لنا ذاكرة النقاء الوطني القائم على روح المواطنة والتعاون ، فإطلاق الأرصاد الجوية الفلسطينية إسم قرية ديشوم الواقعة الى الشمال من صفد والتي هدمها الاحتلال عام 1948، ليقيم عليها مستوطنة "موشاف ديشون" على المنخفض هو لفتة رائعة تستحق الإحترام والتقدير، وتحمل الكثير من المعاني الوطنية وتمسك شعبنا بحقه بعودة لاجئيه ، كما أن الأداء الرائع المتفاني ، والروح الوطنية والمعنوية العالية التي تمتع بها موظفي المؤسسات الخدماتية، بما فيها الدفاع المدني، والإطفائية، والأجهزة الشرطية والأمنية، والمؤسسات الطبية، والوزارات ذات الاختصاص، وبعض النقابات، التي مارست واجبها الانساني والاجتماعي على أكمل وجه ودون تقصير، تستحق كل التحية والإعجاب، فقد عمل هؤلاء الأبطال ليلا ونهارا، دون كلل أو ملل، على الرغم من الظروف الاقتصادية الإستثنائية التي يمر بها كل أبناء شعبنا، فتخطوا بانتمائهم حدود العلاقة بين الموظف وصاحب العمل إلى افاق المناضلين والمواطنين الصالحين، وكذلك هي لفتات شعبنا التي أظهرت مدى نقاء سريرته وسمو أخلاقه، فشاب يضع رقم هاتفه الخلوي على الفيس بوك ويعلن عن استعداده لاستقبال أي مواطن لا يستطيع الوصول لبيته، علما بأنه موظف في جهاز الشرطة الفلسطينية ولم يتقاض سوى نصف راتب منذ شهرين، وطبيب يعلن عن استعداده للتطوع بتقديم أي استشارة طبية مجانا أو الوصول لأي مريض لا يستطيع الخروج من بيته ، بالإضافة إلى عشرات الشباب من شبيبة فتح وغيرهم من المجموعات الشبابية التي تطوعت في صفوف الدفاع المدني والإطفائية في نابلس وأريحا وغيرها من محافظات الوطن . كما أن مشهد الهبّة الجماعية الصادقة والعاطفية للبحث عن المرحوم الشاب المحامي ماهر برية "رحمه الله" من قبل أهالي محافظة طولكرم، على الرغم من العواصف التي عاشتها المحافظة والخطورة البالغة التي شكلتها عملية البحث بسبب الفيضانات والسيول، والتي أودت بحياة ثلاثة من المواطنين في حدود المحافظة، ما هو إلا انعكاس لهذه الروح النقية الفياضة بالخير والتعاون والمحبة ، وما مشهد بيت العزاء السامري الاسلامي المشترك بالشابتين هناء السامري وسماح كنعان شهيدتا فلسطين في محافظة نابلس إلا ترجمة صادقة لجوهر حقيقة نابلس القائمة على التعددية والتكامل وتلاقح الديانات والأفكار .

الحقيقة الأخرى للأسف قاسية وتستدعي المصارحة والطرق على جدران خزان الوعي الجمعي الفلسطيني بكل مكوناته، والولوج عميقا إلى قاع الحقيقة على الرغم مما تحمله من قسوة وتضاد مع رغباتنا ، وعدم الإكتفاء بلمس قشورها ، إذ أننا مواطنين وحكومة، ومؤسسات مجتمع مدني، وأحزاب سياسية ، ورجال دين، وإعلاميين،ومؤسسات تعليم عالي، ومراكز أبحاث، وموجهين للرأي العام في كل الساحات وفي كل الأماكن، من الواجب علينا الإعتراف بأن هذا المنخفض قد عرى حقيقة ضعف البنية التحتية في كل الوطن، وعدم صمودها أمام منخفض جوي متوسط القوة، مشيئة الله أرادت ان لا يشتد أكثر، لعلها رحمة بالأطفال والفقراء وما تبقى من الزرع والدواب ، فمعدل الأمطار في فلسطين بشكل عام لا يتعدى بأفضل الحالات وأـكثرها تفائلا 700 ملم سنويا ، فيما يصل في مدينة روستوك شمال المانيا الى 343 ملم شهريا ، و في مناطق أخرى من العالم مثل منطقة تشيرابونجي في جنوب الهمالايا تصل الى 11430 ملم ، لكننا لا نسمع عن شوارع تنهار لمنخفض متوسط القوة إلا في الدول المتخلفة ، ولا تعطل المؤسسات الحكومية والخاصة وكل قطاعات المجتمع باستثناء مؤسسات الطوارىء وكأن البلد تعيش حالة حرب عدونا فيها هو الطبيعة، إلا في دول لا تعرف الحضارة أو التقدم ، إذ أن الدول التي تصبو الى الحياة، تسير نحوها بخطى ثابتة ، من خلال احترام حرية المواطن وكرامته وإنشاء بنية تحتية قوية وقادرة على توفير أجواء من الأمن له ، تضمن استمرار حياته اليومية بشكل طبيعي خلال هكذا منخفضات جوية عابرة ، إذ تصل درجات الحرارة في بعض دول العالم الى سالب 40 او يزيد ، وتستمر عجلة الإنتاج اليومية بالدوران ، وتتواصل حياة أفرادها بشكل طبيعي.

حيح أن الطبيعة حين تعلن غضبها، تحقق انتصارا حاسما وسريعا وساحقا على الإنسان ، كما حدث في انفجار بركان إيجافجلاجوكول في أيسلندا، أو تسونامي امريكا الوسطى، او زلزال سان فرانسيكسو عام 1906، أو اعصار ساندي، او زلازل هاييتي ، او حرائق الغابات الروسية ، لكن منخفض ديشوم لا يتعدى كونه يوما باردا من أيام اروربا او الولايات المتحدة الامريكية او روسيا ، لكن الفرق الوحيد هو أنها دول قد اهّلت مرافقها ببنية تحتية قادرة على تحمل تلك الظروف الجوية، ومكنتها من تخطي اختبارات الطبيعة من هذا النوع، فمشهد الشوارع المدمرة بفعل الأمطار في فلسطين يدعو للغضب والتساؤل عن مدى جودة العمل في قطاع الإنشاءات في فلسطين، ومدى الرقابة عليها من الحكومة والجهات المختصة، وتعطيل الحياة وعجلة الإنتاج ليومين هو دليل على عدم ثقتنا بتلك البنية التحتية، إذ أنه من غير المعقول ان يكون قرار ايقاف العمل في المؤسسات الحكومية بمعظم قطاعاتها قرارا اعتياديا في دولة تحترم ذاتها وتعرف أهمية الوقت، وهذا يدعونا إلى التساؤل عن مدى جدوى الملايين التي تصرفها مؤسسات المجتمع المدني في دورات ومشاريع شكلية لا تحقق سوى معاشات مرتفعة لفئة قليلة من المجتمع ، أليس من الأجدى ان تستثمر تلك الاموال في مشاريع تختص بالتخطيط الحضري، والتوعية البيئية، وتمكين بنيتنا التحتية، التي لا تزال بحاجة الى المزيد من الإمكانيات؟ أليس انعدام وجود بنية تحتية وشبكات صرف صحي قادرة على التعامل مع هكذا ظروف جوية هو أحد أسباب استشهاد ثلاثة من شابات وشباب الوطن ؟

كما أنها رسالة لكل القوى السياسية في الوطن، التي تتسابق للحصول على أصوات الناخبين ، بأن شعبنا بحاجة الى برامج عمل تضع أصبعها على جرح الوطن والمواطن ، وتتلمس مشاكله الاجتماعية وحقه بالتنقل من الخليل إلى جنين دون خوف من أن يجرفه سيل ـأمطار غاضب فيصبح أبناؤه أيتاما، فالإنجاز الأكبر لأي حزب أو حركة أو تجمع يتمثل بانصهارها مع المجتمع والدفاع عن حقوق أفراده وحقهم بالعيش الكريم بحرية وكرامة وعدل وأمان ، متجاوزا أسوار التنظير والجعجعة الفارغة .

كما أنها رسالة لرجال الدين والإعلاميين والمؤسسات البحثية كي يشرعوا أقلامهم ومنابرهم وامكانياتهم للدفاع عن حق الفقراء ببيت لا تهدده الأمطار ، ولا تجرفه السيول .

أتمنى أن تتداعى المؤسسات الأهلية والرسمية لحلقات تقييم عميقة ومسؤولة لما حدث ، وأن تكون جنازة الشهيد ماهر برية هي الأخيرة في هذا المجال ، متجاوزين ثقافة ادعاء الجهال بان ما حدث هو قضاء لم يكم من الممكن رده، لأنه سيبقينا في صفوف السذج المتواكلين ، أو سياسة الهروب الى الأمام واتهام الاخر ، لانه وطننا جميعا مواطنين ومسؤولين حكاما ومحكومين .

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required