مفتاح
2024 . الإثنين 22 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 


شهد التاريخ قيام امبراطوريات عظمى، وشهد ايضاً انحلالها واضمحلالها وتفككها. فهل سيحمل المستقبل مشهداً مماثلاُ بعد ان انفردت الولايات المتحدة الاميركية بالقوة والهيمنة في عالم ما بعد القرن العشرين؟

الدكتور عبد الغنى عماد - استاذ فى الجامعة اللبنانية :

كانت الامبراطورية الرومانية قوة عظمى هيمنت على الحياة الدولية في عصورها. وكانت فرنسا وبريطانيا كذلك. وحتى الأمس القريب كان الاتحاد السوفياتي قريباً من هذه الصورة قبل ان يسقط بالسكتة القلبية، ويتفكك الى جمهوريات والتي بدورها راحت تتشظى الى دويلات ولا تزال. واليوم يحتل النفوذ الاميركي المشهد العالمي ويمارس هيمنته وانفراديته بصلافة تعالي. فهل الولايات المتحدة بقدراتها وامكانياتها "مؤهلة" لقيادة العالم واعادة رسم خرائطه وحدوده من جديد بما يضمن اعادة انتاج هذه القوة وإطالة عمر هذه الامبراطورية الصاعدة؟ والى متى وكيف؟

وهل سيستمر الواقع الدولي الراهن بحيث لا تبدو في المستقبل المنظور قوى أخرى قادرة على المنافسة أو المشاركة؟ ومن هي هذه القوى المرشحة للقيام بهذا الأمر ولعب دور قوى المستقبل الصاعدة؟ وما هي مقوماتها؟ ومتى تبدأ لعبة التنافس الحقيقي وكيف؟ ثم ما الذي ستفعله الولايات التحدة الاميركية بقوتها وما هي صورة العالم الذي تريده؟ فعلى ضوء استراتيجيتها واداءها يطول أو يقصر حلمها الامبراطوري؟ هذه هي بعض الاسئلة الصعبة التي تتصدى لمناقشتها مراكز الابحاث الدولية ومستودعات الافكار وبيوت الخبرة الاميركية. وهي أسئلة بات بعضها يؤرق الادارات الاميركية منذ ما قبل 11 ايلول/ سبتمبر 2001.

حقائق القوة ومحدوديتها

ربما كانت عبارة كرمويل شديدة الدلالة حين قال: تسعة يكرهونني؟ وما هم اذا كنت العاشر الوحيد المسلح. وهي عبارة تستوحي ما قاله فيلسوف روما قديماً: "دعهم يكرهونك ما داموا يخشونك". وهو قول استرشد به الاباطرة الرومان واستخدموه في المحافظة على هيبة الامبراطورية وفي البطش والارهاب وابادة الشعوب. وهو ما حرك ضدها جميع انواع المقاومة التي أدت في النهاية الى تفككها وسقوطها. وفي القرن السادس عشر كانت الدولة العثمانية قوة عظمى نجحت في فرض ارادتها على مساحات واسعة من اوروبا، لكن ما أن أطل القرن السابع عشر حتى اصبحت فرنسا القوة الاوروبية العظمى، وهي مع نابليون فيما بعد كادت ان توحد اوروبا تحت رايتها. ولم يطل الأمر حتى برزت بريطانيا كقوة عظمى منافسة. ثم انتهت لحظة الهيمنة لبريطانيا الفيكتورية بصعود قوى جديدة ممثلة في المانيا والولايات المتحدة واليابان. وبعد الحرب العالمية الثانية نشأ وضع ثنائي القطبية تجاذب فيه الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة النفوذ، وبدأت الحرب الباردة والتي انتهت بما يشبه الاحادية القطبية مع مطلع التسعينيات من القرن المنصرم.

والقراءة المدققة في سياسات الولايات المتحدة في الربع الأخير من القرن الماضي تبين بوضوح بعض المحطات التي لعبت دوراً هاماً في بلورة لحظة القوة والغطرسة التي تعيشها والتي لم تكن في خط تصاعدي دائماً. فمع نهاية السبعينيات، وانتهاء الولاية الاولى للرئيس كارتر ساد شعور بالاحباط والضعف وفقدان الهيبة بفعل الغزو السوفياتي لافغانستان، والذي اعتبر توسعاً وتقدماً للعدو على حساب المصالح الاميركية، بل وتحدياً لسياسة الوفاق الدولي التي انتهجتها الادارات الاميركية المتعاقبة. تلى ذلك سقوط شاه ايران، حليف اميركا القوي في الخليج، وقيام نظام معاد لها، مما فاقم الشعور بالعجز وتراجع النفوذ.

وعلى الرغم من الاجراءات الوقائية والشديدة التي اتخذها كارتر، إلا أن الصورة لم تتغير، مما مهد الطريق امام المرشح الجمهوري رونالد ريغن الذي خاض معركته بدعم من تيار المحافظين الجديد ) New Conservatism( على ضوء شعارات متشددة تتبنى الدفاع القومي في مواجهة القوة السوفياتية. وهو ما نفذه من خلال تركيزه على البناء العسكري، بدءاً من العام 1981 تاريخ توليه الحكم، مما أشعل الحرب الباردة الجديدة. دخل ريغن في مواجهة ايديولوجية وسياسية وخاض تنافساً في البناء العسكري كان له الفضل في حسم الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة الاميركية بعد سنوات، وهو ما جعل ريغن يقول مع انتهاء ولايته الاولى عام 1985 "ان الولايات المتحدة اصبحت عالية القامة مرة أخرى".

ومع ذلك بقي القلق كامناً في الأوساط السياسية والاكاديمية الأميركية فيما يتعلق بحقائق القوة وبشكل خاص في منافسيها على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي والتي تمثلت بقوى عالمية صاعدة. وقد عبر عن هذا القلق بوضوح المؤرخ والمفكر الأميركي البارز بول كينيدي في كتابه الضخم الصادر عام 1988: "صعود وسقوط القوى العظمى". والذي رأى فيه ان الولايات المتحدة تتراجع على المستوى الاقتصادي مقارنة بثلاث قوى هي اليابان واوروبا الغربية والدول الصناعية الجديدة. وأن هذا التراجع اذا ما استمر سينعكس على الأبعاد الأخرى لعناصر القوة الاميركية. وخلص الى أن الانفاق العسكري الكبير، فضلاً عن الالتزامات الانفاقية الواسعة أصبحت فوق طاقة الولايات المتحدة. وانتهى الى التحذير من أن الاتجاه الحالي سيؤدي الى ان تواجه اميركا نفس المشكلات والمصير الذي واجهته قوى امبريالية سابقة.

إلا أن رياح التسعينيات وتداعيات السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي الذي جرف جدار برلين، أظهر ان الولايات المتحدة قد خرجت منتصرة ومنفردة بقيادة العالم، الا أن الشك عند البعض، داخل مراكز الأبحاث الأميركية والغربية عموماً، بقي يرخي بظلاله، ذلك ان هزيمة الخصم لا تعني بالضرورة انتصاراً مطلقاً، خاصة اذا كانت هزيمة هذا الخصم ناتجة عن اختلالات بنيوية داخلية حادة كان يعاني منها. ومما زاد في هذه الشكوك ان الميزانية الاميركية في عهدي ريغن وبوش الاب سجلت تراجعاً إذا ما قورنت بحلفائها، وهو تراجع ادى الى مضاعفة العجز الفيدرالي ثلاث مرات. فقد كانت الولايات المتحدة الاولى في الانفاق العسكري والتكنولوجيا والرؤوس النووية والطائرات المقاتلة في العالم، إلا أنهاكانت في الوقت نفسه الثامنة في متوسط عمر الفرد، والثامنة في الانفاق على الصحة العامة، والثامنة عشر في معدل وفيات الأطفال، بل أظهر الفحص الاحصائي بما يتعلق بالكسب والعمالة والتعليم والجريمة، ان الولايات المتحدة تبدو وكأنها تتكون من أمتين منفصلتينژ)1(گ.

وظهرت في المقابل مفارقات اخرى كشفت عن بروز عناصر قوة في العالم آخذة في منافسة الولايات المتحدة او مشاركتها ممثلة في الاتحاد الاوروبي الذي تحول الى لاعب دولي مميز، مما جعل الساحة الدولية تتميز بالغموض والسيولة وعدم اليقين، بل بدا وكأن النظام العالمي أقرب الى الفوضى منه الى النظام، بحيث بدت الولايات المتحدة الاميركية مربكة وغير واثقة من قدراتها ومن دورها.

ومع بداية الولاية الثانية للرئيس كلينتون تخطت الولايات المتحدة تلك الارباكات وحدث ازدهار اقتصادي غير مسبوق واختفى الخوف من التضخم وازداد معدل النمو بنسبة 4 بالمئة وتولدت أكثر من عشرة ملايين فرصة عمل، وتعاظمت قدراتها في تكنولوجيا المعلومات، مما دعا البعض للقول عام 1998 ان الاقتصاد الايمركي حقق ما يتجاوز المعجزة الالمانية واليابانية من خلال النمو الاقتصادي المتواصل للعام الثامن على التواليژ)2(گ الأمر الذي جعل الرئيس الاميركي في رسالته عن "حال الاتحاد" في 27/1/2001 يتباهى بالقول: "انه لم يسبق ان تمتعت امتنا بمثل هذا القدر من الرفاه والتقدم الاجتماعي مع القليل من الازمات الداخلية والتهديدات الخارجية، فنحن نبدأ القرن الجديد بأكثر من عشرين مليون وظيفة جديدة وأسرع نمو إقتصادي وأقل معدل بطالة وفقر منذ ثلاثين عاماً". هذا الواقع أظهر الولايات المتحدة كقوة منفردة "متنامية"، ثم كقوة لا غنى عنها خاصة حينما نجحت في حسم بعض المشكلات الدولية، كما ظهر في حرب الخليج الثانية، وفرضها لاتفاق دايتون للسلام في البوسنة وقيادتها للأزمات المالية عام 1997.

نحو غطرسة وهيمنة المركز

دفعت هذه الصورة صناع القرار في الولايات المتحدة الى مراجعة النظرية التي تقول باحتمال صعود منافسين جدد محتملين )اوروبا، الصين، اليابان وروسيا(، الأمر الذي أدى الى طرح السياسة الانفرادية والاحادية القطبية، ودفع باتجاه سياسة الهيمنة خاصة بعد ما تبين ان مسافة كبيرة اقتصادياً وعسكرياً تفصل بين الولايات المتحدة ومنافسيها الذين تتهدد كل منهم عوامل ضعف بنيوية.

في هذا المناخ بدت الفرصة سانحة، بل بدت وقائع السياسة والاقتصاد في العالم كلحظة تاريخية مناسبة لاميركا لاعادة صياغة المشهد الدولي بما يتناسب ومصالحها، وهو ما تجسد بإستراتيجية هجومية وبسياسات احتوائية منفردة بدأت طلائعها بالبروز بشكل واضح منذ ما قبل احداث 11 ايلول/ سبتمبر، وهي بعد هذه الاحداث اندفعت أكثر فأكثر في هذا المجال.

ان الحديث عن تداعيات 11 ايلول لا يجب ان يختزل تلك التطورات الهائلة التي كان يشهدها العالم بعد سقوط جدار برلين وافتقاد الولايات المتحدة "للعدو" التاريخي الذي وطنت نفسها على محاربته. فسقوط الاتحاد السوفياتي لم يكن يعني مجرد سقوط نظام في الحكم معين ولا مجرد انحلال تكتل بين دول، ولا مجرد تفتت معسكر دولي، بل كان يعني بالدرجة الأولى سقوط نظام اجتماعي اقتصادي وفكري، نظام يطرح نفسه كمشروع حضاري للمستقبل، كان يبشر بعلاقات انتاج جديدة وبنظام سياسي وايديولوجيا جديدة وبعبارة واحدة: بداية تاريخ جديد للانسانية. وبصفته مشروعاً حضارياً للمستقبل كان لا بد ان يدخل في صراع مع النظام القائم الذي من جوفه خرج، وهو النظام الرأسمالي. كان الصراع بين النظامين يشمل الاقتصاد والسياسة والقيم والفكر، وبما أنه لم يتطور الى صدام مسلح على غرار الحربين العالميتين بسبب الرادع النووي، فقد اكتسى صيغة صراع حول المناطق الاستراتيجية ومواطن الثروة، وايضاً صيغة صراع ايديولوجي استعمل فيه الدين والعلم والثقافة. ان سقوط احد طرفي الصراع بدون حرب كان بدون شك انتصاراً للطرف الآخر، المعسكر الرأسمالي، لكنه انتصار من نوع خاص لم يكن نتيجة مواجهة يتحمل فيها كل طرف نسبة من الخسارة، ولا نتيجة معاناة تحمل كل طرف على التكيف مع نتائج المعركة. لكنه كان انتصاراً مجانياً بدون ثمن، كان في الحقيقة الغاء للمباراة قبل اجرائها بسبب انسحاب غير متوقع لاحد الطرفين. فيما بقي الطرف الآخر كما هو بكل عدته العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية والعلمية والفكرية. وايضاً بقي في حالة تعبئة وتجنيد، ولكن بدون عدو. لقد خلت له الارض وخلابها. وتلك مشكلة من نوع جديد.

لقد وجدت الولايات المتحدة الاميركية نفسها فجأة، دولة، بل معسكر وترسانة من الاسلحة، بل تحالف دولي بنى سياسته واقتصاده واستراتيجيته وثقافته ورؤاه المستقبلية على أساس انه يواجه عدوا يتربص به، فاذا بالعدو ينسحب، بل يختفي ليظهر وراء خصمه يطلب الانخراط في نمط حياته ليصير جزءاً منه وحليفاً له. مشكلة ليست سهلة على حد تعبير محمد عابد الجابري، مشكلة "الانا" الذي لا يعرف كيف يتعرف على نفسه إلا من خلال "آخر" يواجهه، فإذا هو يفقد فجأة هذا "الآخر" الذي يتحدد به. فماذا يمكن ان ننتظر من هذا "الانا"؟ هل ننتظر منه ان يفكك ذاته ويعيد تركيبه؟ كيف؟ وكيانه جميعه موجه ككل وكأجزاء الى مضادة كيان "الآخر" ككل وكأجزاء؟ ان بقاء الولايات المتحدة بدون "آخر" خارجي لن يكون الا على حساب وحدة "الانا" فيها. وهي مجموعات من أصول واثنيات مختلفة وثقافات متعددة، ومصالح متنوعة، فكيف يمكن المحافظة على وحدة "الانا" فيها بدون "آخر" يمثل العدو المشتركژ)3(گ.

هذه الاشكالية البنيوية الجديدة ترافقت مع تنامي نفوذ التيار اليميني داخل الادارة الاميركية والذي يمثل امتداداً لتيار المحافظين الجدد الذي شهد منذ الثمانينيات مع رونالد ريغن تقدماً ملحوظاً، وهو التيار الذي تبنى مفاهيم الهيمنة والمواقف الانفرادية، وقد ظهر هذا واضحاً في عدد من المواقف منها: انسحاب الولايات المتحدة الاميركية المنفرد من اتفاقية الصواريخ المضادة )Anti Balistic Missiles A.B.M( والذي أثار مخاوف حلفاء اميركا، فهذه الاتفاقية كانت تعتبر اساس التوازن الاستراتيجي في العالم. عدم تصديق الادارة الاميركية على بروتوكول كيوتو حول التغييرات المناخية في العالم.

مقاطعة مؤتمر التصديق على معاهدة حظر التجارب النووية ومؤتمر المراجعة الذي عقد حول الاسلحة البيولوجية. رفضها التصديق في الكونغرس على معاهدة روما الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية. تبني سياسة انحياز كامل وبعيد المدى في سياستها الشرق أوسطية لصالح اسرائيل مما أدى الى احراج حتى حلفاءها العرب.

هذه المواقف وغيرها تؤكد ان احداث 11 ايلول لم تحدث تحولاً في السياسة الاميركية التي حافظت على اتجاهها في العمل المنفرد وتأكيد الهيمنة، فالدول العظمى، حسب تعبير محمد حسنين هيكل، لا تغير استراتيجياتها بسهولة، لان هذه الاستراتيجيات لا تصنع بالالهام او النزوة، ولا تتقرر بقيام حكم وسقوط آخر، ولا يؤثر فيها ان يذهب رئيس ويجيء رئيس قائد استراتيجيات املاء جغرافيا وتاريخ، وقد تتغير السياسات المعبرة عنهما لتتلائم مع متغيرات الظروف، لكن الاستراتيجية تعلم دارسيها ان الاهداف يمكن الاقتراب منها عن طريقين: اقتراب مباشر أو اقتراب غير مباشر، مع بقاء الهدف في الحالتين ظاهراً امام عيون طالبيه حتى وإن اخذتهم "التضاريس" الى الطرق الدائرية)4(. وهو ما يحصل اليوم اقتراب مباشر نحو الهدف يعتمد مفهوم جديد هو الضربات الوقائية Preemptive attaches ضد هجمات محتملة وعدو مفترض.

تنامي دور اليمين المحافظ

يشير الاستعراض السابق لوقائع التعثر والصعود الاميركي على صعيد امتلاك مصادر القوة والانفراد بها الى التزامن الحاصل مع نمو دور اليمين الديني والخطاب الايديولوجي منذ ولاية ريغن، وهو الخطاب الذي اتجه نحو التجذر بعد سقوط جدار برلين وتهاوي الاتحاد السوفياتي وفقدان الولايات المتحدة للعدو التاريخي الذي يشكل وجوده حاجة استراتيجية كما اسلفنا، وهو الأمر الذي كان يتجه نحو البحث عن عدو "بديل" تمثل بما أسمته الميديا الاميركية بـ "الارهاب" و"محور الشر" فيما بعد، وهو ما تبنته الادارة الأميركية مع بداية التسعينيات. وهذا "العدو" المفترض، ولاسباب عديدة، تمثل بالاسلام، وجاءت احداث 11 أيلول/ سبتمبر لتدفع بهذا الاتجاه الى أبعد مدى، ومعه نجحت قوى اليمين المتصهين في الربط المحكم بين الارهاب والمقاومة الباسلة للشعب الفلسطيني، وهو ربط لم تتجرأ عليه الادارات الاميركية السابقة. الا أن الأمر لم يتوقف عند هذه الحدود، بل برزت في الافق مظاهر مقلقة هيمنت على الخطاب السياسي والاعلامي الاميركي دفعته باتجاهات عنصرية وايديولوجية صارمة ضد العرب والمسلمن. ومنها نرصد التالي:

زلة اللسان التي اشار بها بوش الابن الى ان اميركا تخوض حرباً صليبية ضد الارهاب. تصريح جون آشكروفت وزير العدل الاميركي الحالي الذي اعتبر فيه ان الاسلام دين يطلب فيه الله منك ان ترسل ابنك لكي يموت من أجله، والمسيحية ايمان يرسل الله فيه ابنه لكي يموت من اجلك)5( تسريب التقرير الصادر عن مركز استشاري للبيت الأبيض يتحدث عن امكانية توجيه ضربات نووية محدودة ضد دول "محور الشر".

طلب الادارة الاميركية من السعودية ومصر وباكستان إعادة النظر بالمناهج التعليمية الاسلامية في معاهد التدريس الديني.

صدور تقرير راند كوربوريشن، مركز الدراسات التابع للبيت الأبيض والذي يعتبر السعوديون ناشطون على كل المستويات في السلسلة الارهابية. ويخلص الى اعتبار العربية السعودية دولة "تساند اعدائنا وتهاجم حلفائنا وهي بذرة الارهاب والمحرك الاول له والخصم الخطر" ويوصي التقرير الذي صاغه لورنت مورفاييتش بالاستيلاء على حقول النفط، وتجميد الارصدة السعودية في البنوك الاميركية والمقدرة بـ 600 بليون دولار، واقامة جمهورية اسلامية في المنطقة الشرقية التي توجد بها حقول النفط وتسكنها اغلبية شيعية. صدور سلسلة من التصريحات عن اليمين المسيحي الاصولي الاميركي تعتبر الاسلام انه الشر الذي يجب مكافحته، وتصدر هذه الحملة ثلاثة من أبرز شخصيات اليمين البروتستانتي المقرب من الرئيس، والذي يملك وسائل اعلام واسعة الانتشار ومن نماذج هذه الحملة:

* ما قاله القس المحافظ المتشدد، وحليف جورج بوش الانتخابي جيري فالويل الذي يمثل 16 مليون انجيلي اميركي من الطائفة المعمدانية حين وصف النبي محمد )صلى الله عليه وسلم( بالارهاب ورجل الشر في حديث لشبكة سي. بي. اس. * وقبله قال القس البروتستانتي جيري فينزاكد في حزيران خلال المؤتمر السنوي للمعمدانيين ان النبي محمد )ص( كان يمارس الاستغلال الجنسي للاطفال فهو اتخذ 12 زوجة آخرها في التاسعة من العمر. * وقبله اعتبر بات روبرتسون مؤسس الائتلاف المسيحي ان النبي محمد )ص( متعصب بشكل مسعور. وان الاسلام ليس ديناً مسالماً يرغب بالتعايش. * وكان القس فرانكلين غراهام ابن الممثل الشهير بيلي غراهام أول من دشنّ هذه الحملة في تشرين الاول الماضي، وهو المقرب من الرئيس بوش، حيث اعتبر حينها الاسلام ديانة الشر لانه يدعو الى قتل الكفرة من غير المسلمين. هذه التصريحات الحاقدة اثارت ردود فعل لدى المنظمات الاسلامية الاميركية التي طالبت الرئيس بوش بادانتها، بل ان ردود الفعل شملت العديد من رجال الدين المسيحيين المعتدلين وبعض المثقفين، بل ان افتتاحية الواشنطن بوست ژ)6(گ ادانت هذه الهجمة ضد الاسلام وطالبت الرئيس بموقف يدين هذه التصريحات الارهابية والعنصرية اذا كان صادقاً في مقولة التسامح خاصة ان هؤلاء والتيار الديني اليميني عموماً مقرباً من الرئيس وهو غالباً ما يتحدث بلغتهم. ومع ذلك بقي بوش صامتاً.

الا أن قمة الاستخفاف بالعالم الاسلامي وبالشرعية الدولية تمثلت بتوقيع الرئيس بوش على القانون المتعلق بالسياسة الخارجية والمعروف باسم القانون 1646 والذي يتضمن مواداً ترغم الادارة الاميركية على الاعتراف بالقدس الموحدة باعتبارها العاصمة لاسرائيل. ورغم البيان التوضيحي الصادر عن البيت الأبيض والذي يقول ان سياسة اميركا بالنسبة للقدس لم تتغير، الا أن الحقيقة تقول ان البيان "التوضيحي" لا يتمتع بقوة القانون. هذه المواقف سبقها تمهيد فكري واستراتيجي بدأ مع التسعينيات، وتعاظم بعد أيلول. فقبل اطروحة صدام الحضارات لصموئيل هنتنغتون التي نشرها في عام 1993، نشر باري بوزان في تموز 1991 مقالة بعنوان )السياسة الواقعية في العالم الجديد( يطرح فيها تصنيفاً جديداً للعالم. فبعد ان كان العالم في ظل الحرب الباردة ينقسم الى العالم الاول )المعسكر الرأسمالي( والعالم الثاني )المعسكر الشيوعي( والعالم الثالث )مجموعة البلدان الخارجة عن التبعية المباشرة(، اصبح هذا التقسيم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لا معنى له بانفراط عقد العالم الثاني، ولم يعد من مبرر لبقاء التصنيف فيما يختص بالعالم الثالث؟ ما يريد الكاتب الوصول اليه هو تصنيف جديد يقسم العالم الى قمسين: مركز وأطراف. أما المركز فهو كتلة رئيسية من الاقتصاديات الرأسمالية المسيطرة على العالم. وأما الاطراف فهي مجموعة من الدول الاضعف من النواحي الاقتصادية والسياسية تتحرك ضمن نمط من العلاقات التي ينسجها المركز في المقام الاول. ويخلص الى ان دول الاطراف الضعيفة المفككة فيها مصدران يهددان امن الغرب وهويته وحضارته. اولها الهجرة. وثانيها هوياته الحضارية المختلفة عن هوية الغرب. وبما ان الهجرة آتية من جنوب البحر المتوسط فالهوية المرشحة للتصادم مع الغرب هي الهوية الحضارية الاسلامية. لذلك فالأمن العالمي سيكون محكوماً بما يطلق عليه صراع الهويات الحضارية، والذي يبدأ بـ "الحرب الباردة الاجتماعية بين الغرب والاسلام".

تلقف صموئيل هنتنغتون هذا التحليل ليصيغ اطروحته المعروفة بـ "صدام الحضارات" ونشرها بداية عام 1993. ويعتبر فيها "ان الفروق بين الحضارات ليست فروقاً حقيقية فحسب، بل هي فروقاً أساسية أيضاً. فالحضارات تتمايز الواحدة عن الأخرى بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والأهم بالدينژ")7(گ. ولأن الاسلام والمسلمين يشكلون حضارة واحدة، ولانهم خاضوا حروباً وصراعات مع جيرانهم ومنافسيهم، فهم يمثلون خطراً جذرياً على الغرب ويقول "ليس صحيحاً ان الاسلام لا يشكل خطراً على الغرب وأن الاسلاميين فقط هم الخطر. ذلك ان تاريخ الاسلام خلال أربعة عشر قرناً يؤكد بأنه خطر على أية حضارة واجهها وخاصة المسيحيةژ")8(گ. وفي هذا السياق يخلص الى "ان للاسلام حدوداً دموية" مشيراً الى النزاعات مع الصرب الارثوذكس في البلقان ومع الهندوس في الهند واليهود في اسرائيل والكاثوليك في الفيلبين.

قبل هنتنغتون كان للمؤرخ اليهودي البريطاني برنارد لويس اطروحة مشابهة في مسألة الصدام الحتمي بين الاسلام والغرب في مقالته الشهيرة "جذور الغضب الاسلاميژ")9(گ معيداً فيها أسباب هذا الصدام الى عناصر سياسية وحضارية وديموغرافية، ولاعتبار المسلمين كياناً حضارياً صاغ علاقته بالغرب بالسخط والعنف والحقد واللاعقلانية.هذا بعض من التمهيد الفكري المبرمج الذي سبق 11 أيلول/ سبتمبر. والذي جاء إثر انتهاء الحرب الباردة، والتي جاءت كهدية مجانية وفرت فرصة نادرة للولايات المتحدة كي تعجل في فتح العالم أمام شركاتها الكبرى وهذا ما لم يخفه حينها أنتوني ليك مستشار الامن القومي للرئيس كلينتون حينما أكد عام 1993 قائلاً "خلال الحرب الباردة احتوينا تهديداً عالمياً لديموقراطيات السوق: الان يجب أن نعمل لتوسيعها". كان من الواضح ان عملية الاحتواء هذه تتطلب تخطيطاً دقيقاً ومبرمجاً. وهذا ما قامت به مراكز الابحاث ومستودعات الفكر وبيوت الخبرة الاميركية التي راحت تنشىء عدواً افتراضياً تمثل بالاسلام والمسلمين. الا أن الهدية الذهبية تمثلت فعلاً بما حدث في ايلول/ سبتمبر فيما بعد، فقد تعاظمت الحملة مستندة الى هول ذلك الحدث الذي جعل فوكوياما يشبه المسلمين الاصوليين بفاشيي العصر وأعتى مناهضي الحداثةژ)10(گ.

لا شك ان في هذه الطروحات الكثير من التضليل والقليل من الحقائق والموضوعية. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا الاسلام؟ وما المقصود بالاسلام؟ هل المقصود الدول أم الشعوب أم الثقافة والحضارة؟ولماذا لا يتجه الحديث الى المسيحية والبوذية واليهودية حين يطرح موضوع الحداثة وصدام الحضارات او حوارها؟ هذا التخصيص نحو دين واحد يحمل على الشك في مدى الموضوعية والتجرد الذي تطرح به المسألة؟ بل ان طرح الموضوع على هذا الشكل يعتبر هروباً من السؤال الحقيقي عن أسباب كره العالم لأميركا، وهو السؤال الذي برز بحدة بعد ايلول، وجاء الجواب مضللاً حينها على لسان بوش الابن وصنّاع القرار: ان الذين يهاجمون اميركا يدفعهم الحسد والغيرة من الرفاهية والديموقراطية التي تنعم فيها الولايات المتحدة. وهو الجواب الأكثر شعبية وتعميماً اليوم.لكن هذا الجواب لا ينفي حقيقة ان اليمين المسيحي المتصهين الذي يزيد اتباعه عن الثلاثين مليوناً، يشكل اليوم لحمة الادارة الجديدة والحزب الجمهوري في المرحلة الراهنة وقد تغلغل العديد من غلاته في وزارة الدفاع والبيت الأبيض. وهم بالاضافة الى تطلعاتهم للهيمنة والتوسع والانفراد في القرار الدولي، مؤمنون بأن اسرائيل أرض الميعاد التي وعدها الرب لليهود، وهم مهجوسون بعقيدة عودة المسيح المشروطة باجتماع اليهود في فلسطين، ومهووسون بحرب الالفية )الهرماجدون( التي سيبيد فيها المسيح العائد قوى الشر، ويعتبرون ما يجري في أرض فلسطين ليس إلا ارهاصات لما يتوقعون انه سيحصل. وعلى الرغم من كراهية اليهود العاديين لهؤلاء لمحاولتهم تنصيرهم لانقاذهم من الابادة في "هرماجدون"، الا أن اليهود المحافظين ولاسباب مكيافيلية وجدوا مصلحتهم المرحلية تقتضي التعاون والتحالف معهم. وهي مصلحة مشتركة في كل حال. لذلك كان ائتلاف اليمين الاصولي المسيحي واللوبي اليهودي نقلة نوعية سمحت بإملاء المواقف على الادارة الاميركية فيما يختص فلسطين والعراق.

حقائق القوة هذه لا تلغي وجود بؤر ضعف بنيوية في النظام والمجتمع الأميركي، الذي يهيمن 10 بالمئة من سكانه على 70 بالمئة من ثروة البلاد، بينما لا يتبقى لغالبية السكان سوى 30 بالمئة من ثروة البلاد الصافية. علماً ان التفاوت يشمل حتى الفئة الغنية إذ يملك 1 بالمئة من السكان الاغنى 38.9 بالمئة من ثروة البلاد. هذا التفاوت أظهر وجود 31.14 مليون فقير حسب التعريف الرسمي للفقر عام 2000 والذي يتركز في الاقليات السوداء والمتحدرة من أصل اميركي لاتيني وآسيويژ)1(گ. هذا التفاوت الرهيب في الثروة والدخل يؤدي داخل اي مجتمع الى تناقضات تنتج عالمين يصارع بعضهما البعض، تعمل فيه الطبقات المتوسطة والفقيرة الى تبني سياسات اجتماعية أكثر عدلاً، مقابل الطبقة الغنية التي ستدافع عن مصالحها بل وتعمل على تحسينها. وهو ما سيولد تناقضات داخلية خطيرة في المستقبل، تتهرب من مواجهتها الادارة الاميركية من خلال طرح تحديات خارجية ووجودية.

هذا بالاضافة الى حقيقة يجري اغفالها وتتمثل بهيمنة الواسب )W.A.S.P( الأنكلوساكسون البيض على أبرز مصادر ومفاصل القوة والاقتصاد والسياسة.

جدلية الدين والسياسة، الايديولوجيا والاقتصاد والمصالح، ستبقى بإنتظار ذلك تحرك المواقف الاميركية. والقوة تغري حقاً بالهيمنة. لكن لا يوجد قوة مطلقة، فالقوة دائماً نسبية ومرهونة بظروفها وبالمعادلات الداخلية والخارجية التي تسمح لها باعادة انتاج نفسها. وهي بالتأكيد ليست معادلات ثابتة او نهائية. لذلك يبقى القلق يرافق كل امبراطورية مهما تعاظمت قوتها **

الهوامش: )1( د. السيد أمين شلبي: "امريكا والعالم واسئلة الهيمنة الاميركية" مجلة شؤون عربية، العدد 111 خريف 2002، ص 15. )2( د. محمد عابد الجابري: "حوار الثقافات في عالم ما بعد 11 ايلول، جريدة المستقبل 2/تشرين الاول/ اكتوبر/ 2002 )3( محمد حسنين هيكل: "دفاتر أزمة"، مجلة وجهات نظر، العدد )36( يناير 2002، ص 10. )4( جريدة السفير 14 2 2002. )5( الواشنطن بوست في 8/10/2002 )6( Samuel p. Hantington, "the clash of civilization? "foreign affairs, vol. 72, no. 3 )Summer 1993( p. 31 )7( المصدر السابق: ص 34 35. )8( Bernard lewis, "the roots of muslim rage" Atlantic monthey )sepptember 1990( pp. 2 60. )9( Francis Fukuyama, "their target: the modern world "Newsweelk )17 December 2001 pp. 8 17 )10( معلومات مستمدة من موقع الانترنت الخاص )Jerom leuy Economies Inotitute عن واعرباه

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required