مفتاح
2024 . الإثنين 1 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 

ها نحن على وشك طي أربع سنوات ووضعها على رف الانتظار لزيارة غزة هاشم لا للعيش فيها.. تناقضات تتصارع بداخلي حول هذا الموضوع. فكلما خرجت من غزة طوال سنين إقامتي فيها والتي استمرت خمسة عشر عاما، كنت اشعر بأنني خرجت من هذا الجزء الصغير الذي يقع في مقدمة الإبرة ، فلا شيء على وجه الأرض يشبه هذا الحاجز ببشاعته ........حاجز إيرز، تراه من بعد عدة أمتار وخلال جميع الفصول هو نفسه برائحته الرهيبة التي يغلب عليها رائحة الجنود والشرطة على رائحة المسافرين عبر ألVIP ببريقها الأخّاذ المختلط برائحة عرق العمال وجميع ما يحملون من متاع قديم حملوه من بيوت رؤسائهم في العمل، أو بعض حبات من الليمون والبرتقال والتي يسمونها (شيء من ريحة البلاد) ..

فظيع هذا المنظر.....منظر العمال عند عودتهم من (إسرائيل)، الشلال الأسود الذي ينتظره الجنود بكامل حلتهم العسكرية، ( يلا يلا )، وسواء أنا كنت في طريق العودة إليها أو خارجة منها يجب علي انتظار انتهاء (الفورة ) خروج أو دخول أكثر من 40.000 عامل من أو إلى( إسرائيل) ، لأنني احمل الهوية الزرقاء، ودخولي إلى (الجحيم) هو مسؤولية الدولة العتيدة ويجب عليهم أن يضمنوا سلامتي، وعند خروجي يجب عليهم التأكد من عدم مخالفتي الفترة القانونية لتصريحي والتي كانت تمتد من شهر إلى ثلاثة شهور.. معاناة انتظار كانت في معظم محاولات الدخول إلى غزة تبوء بالفشل، أما مهمتي "العسكرية" في الخروج منها فكانت تتم ولو بعد ساعات، وأحيانا أطرد من إيرز باتجاه القدس، لرفضهم تجديد التصريح على الحاجز.

كل هذه التجربة احتفظ بها، ولكنني أنساها رغما عني، وتقلب الأمور رأسا على عقب عندما أحاول أن أنسى ما حصل على الحاجز في 19 و 21\6\2007 ، والذي لا يزال بأحداثه يراوح مكانه في غرفة سوداء تملؤها رائحة الرطوبة العفنة، تقع بين ذكريات 15 عاما وذكريات 4 أعوام، هناك أنا مازلت بشنطة سفر وقفص لعصفورين، شنطة سفر تملؤها أهم ما نملكه من الملابس أنا وأولادي الستة، وقفص لعصفورين كنا نقتنيهما في المكان الذي كان يسمى بيتنا.

في هذا الصندوق المثير للاشمئزاز صراع بين الحق والباطل.. الأسود والأبيض.. الموت والحياة، الشرف والخيانة، اللعبة واللاعب والملعب، سبع عشرة ساعة في ممر طويل من (الباطون) الخشن المبني على أطرافه ما يشبه المقاعد ويعلوه سقف من (الزينكو)، مع مئات من الوجوه الشاحبة التي تتبدل مع كل ساعة، واغلبها من الذكور.. حالفني الحظ بوجود خمسة من المعروفين بوطنيتهم والذين يملكون المعلومات عن معظم الموجودين من حولنا، وقد زودوني بالمعلومات عما يجري من حولي، ووفروا الحماية لأبنائي الستة... الحماية من منَ؟ ، لقد كانت طلقات النيران والحواجز تحاصرنا من الجانبين، فجنود الاحتلال وراء البوابات الحديدية التي تمنع تقدم أي كائن كان، والملثمون من أفراد حماس يتربصون للجميع ويمنعونهم من الوصول إلى شاطئ النجاة، ويحققون مع كل من يقرر العودة إلى غزة.. كان المكان يعج بالعملاء من الطرفين، صحافة مكتوبة ومسموعة ومرئية لرصد السبق الصحفي، جماعات من الشباب ترسلها (حماس) في مهمة محددة حيث تنتظر أي أمل لفتح البوابات الحديدية للاندفاع نحوها ، فما أن ينادي الجنود احد الأسماء التي حصل صاحبها على تصريح، حتى يندفع المئات فتقذف علينا قنابل الغاز وطلقات الرصاص ويتم غلق البوابات مرة أخرى، فيهربون ويدوسوننا وصغارنا ويبتعدون، وصدى ضحكاتهم تملأ المكان..

يأخذون معهم ما استطاعوا سرقته، وبعد تكرار العملية أصبحنا أنا وأطفالي نمتلك الخبرة بما يتوجب فعله، فما أن تفتح البوابات حتى نلتصق بجانب بعضنا البعض، نضع الشنطة والقفص بجانبنا .. نخفض رؤوسنا ونجلس القرفصاء على مقاعد الباطون، ويتدفق المئات من الشباب مرة أخرى.

لقد غلبت الشائعات على الحقائق في ذلك اليوم ، كثير من العوائل والشباب الذين لا ناقة لهم ولا بعير بما حدث في غزة ، انتهزوا إمكانية فتح البوابات للخروج منها، فسلطة رام الله - على حد قولهم- ستوفر 600 $ شهريا كحد أدنى للعائلات التي تضررت من الانقلاب وستعمل على تأمين المساكن لهم، والأجهزة الأمنية ستستوعب جميع الشباب الذين صمدوا في مواقعهم قبل إعلان حماس السيطرة الكاملة على القطاع، وجميع ما نتلقاه من مكالمات للجهات التي تسعى لتنسيق خروجنا تشجعنا على الانتظار، فلقد كان متوقعا أن تبدأ هذه الفئات غير المهددة حياتها بالخطر بالرجوع إلى بيوتها، وبهؤلاء المشاغبين بالتعب والكلل، وبالفعل بدأنا نشعر عند مغيب الشمس بان الأعداد بدأت بالانحسار، حتى جاءت الإمدادات والمعونات الغذائية من الصليب الأحمر، فهب الجميع من حيث لا نعلم، وتسابقوا على الوجبات المقدمة، وما هي دقائق حتى امتلأ الممر الطويل بعلب اللبن التي لم تؤكل والخبز الذي داسته أقدامهم، فشكرت الصليب الأحمر الذي كان يسألنا عن احتياجاتنا ، وتذكرت دور المؤسسات الدولية الاغاثية في توفير الخيام للاجئين لتعزيز وجودهم لا صمودهم في المهجر، ووجهت الشكر الأكبر للصحافة التي اتخذتنا مادة إعلامية دسمة، وقد أثار فضولهم هذا القفص فما مر من احد منهم إلا والتقط الصور لهذين العصفورين، وما تجرأ احد أن يدير لقاء مع أولادي الصغار بعد ما تكلمت بحدية مع احدهم وبأن أولادي ليسوا مادة إعلامية لأحد.

بعد مضي سبع عشرة ساعة تلقيت اتصالا هاتفيا مفاده أنه يجب علي العودة إلى البيت خصوصا بعد إصابة احد النساء بطلقات من النار ، وقيل لي لا تعودي إلا بناء على مكالمة هاتفية منا. انطلقت أنا وأبنائي الساعة الثانية صباحا إلى البيت، وكانت مسافة العشر دقائق التي تبعدني عن مكان سكني تعادل العشر ساعات، حيث كانت الحواجز وطلقات النيران المتقطعة تملأ الشوارع، وهنا يغلب الواقع المرير على الإشاعات، فما أن وصلت إلى البيت حتى علمت بمقتل احد الشبان الذين كانوا معنا على الحاجز على أيدي الملثمين.. لا يوجد مجال للحزن على احد، وجاهدة حاولت أن أتذكر ملامحه، وكل ما أتذكره الآن انه بالتأكيد كان فلسطينيا.

قضيت ثلاث ليال سوداء لا أفارق مكانين، وراء ستارة شباك غرفتي المعتمة أراقب سيارات الملثمين، وسجادة صلاتي، اقرأ كل ما افلح قراءته بانتظام من القران الكريم، أضع على خاصرتي قطعة قماش لقطع الذهب التي فلحت في المحافظة عليها طوال سنوات زواجي ومبلغ من المال، وأنام عندما يطلع الصباح ، أما أولادي فقد كانوا يبتعدون عني، ويتبعون نصائحي بعدم الاقتراب من النوافذ ، لا يفتحون الباب لأحد، وعبر الهاتف لا يقولون الحقيقة، فأوضاع غزة هي على ما يرام، ونحن بألف خير، حتى جاء 21\6\2007، وتلقيت الهاتف المنتظر، (عمير) من الجانب الإسرائيلي: احضري حالا إلى ايرز، وقفز أطفالي إلى السماء بأصواتهم الفرحة، وكان كل شيء جاهز للانطلاق من جديد، لم أكن متأكدة انه اليوم الأخير لي بغزة، ورغم ذلك طلبت من السائق "ابو فادي"- الذي لازمني طوال الساعات السبع عشرة في المرة الأولى- أن يذهب بي المدينة لألقي نظرة ما على ما خلفته الأحقاد في غزة، القي نظرة على البيوت والبنايات الممزقة، على بيوت العزاء المنتشرة في الأزقة والحارات، رأيت غزة كما وصفها لي والدي قبل سنوات معارضا زواجي : (غزة يابا سودا)، نعم كانت سوداء يا أبي ولكن ليست أيام الاحتلال عندما دخلتها، كنت أراها في ذلك الحين بيضاء طاهرة بوجوه الصامدين ، واستمتعت طوال وجودي فيها بذلك البحر الأزرق الواعد برجوع حيفا ويافا وعكا......، ووصلنا الحاجز، كان السقف( الزينكو) الذي يغطي ممر الحياة قد تم تفكيكه وسرقته، وعبرنا بوابة النجاة راكضين هاربين من طلقات نار أبناء جلدتنا.

لا ادري ماذا حلّ بالعصفورين فقد منع جيش الاحتلال مرورهما، وأعطيتهما لعامل عربي يعمل على الحاجز، ولكنني احتفظت لفترة بصورتهما التي فوجئت بها على إحدى صفحات الصحف العبرية بعد ذلك، تعرفت على العصفورين، على أولادي ، ولكني لم أعرف نفسي، وما زلت حتى الآن لا أعرف من أنا خصوصا أن "عمير" الجندي الإسرائيلي.. أتذكرونه؟؟ قال لي : حمد لله على سلامتكم.

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required